حينما نريد إفساد قضية!

التشكيك بنوايا تعداد السكان العام وربطه بقصة التوطين، كان آخر ما توصل إليه ذلك النمط من الذهنيات المحلية التي لم تتوقف منذ أكثر من عقدين عن ربط أي خطوة إصلاحية بفكرة المؤامرة والتوطين، لكن ان يصل الأمر حتى للتعداد العام للسكان الذي ينظم ويدار من قبل جهة سيادية وطنية ويجري بموجب القانون والأنظمة وتحت الشمس‘ فهذا أمر يستدعي السخرية ولا يفسد فقط برامج ومشاريع الإصلاح بل يفسد هاجس التوطين نفسه. اضافة اعلان
كلنا نعرف قصة الراعي الذي كان يخيف القرية كل مساء من الذئب الذي سيفتك بأغنامهم، وكلما ذهب رجال القرية لمطاردة الذئب اكتشفوا زيف ذلك الادعاء، إلى أن جاء اليوم الذي هاجم بالفعل الذئب قريتهم، حينها لم يصدق أحد ذلك الراعي. لا أحد ينكر أن التحولات في الهوية الديمغرافية التي يتعرض لها المجتمع الأردني تشكل مصدر تهديد متحركا، وهناك مصادر تهديد مرتبطة بالمزيد من التهجير ومن الجهات الأربع المحيطة بالأردن، ولكنْ لم يصل هذا الأمر إلى مستوى الهاجس المرضي الذي يطل برأسه في كل حين وبمناسبة وبدون مناسبة.
أصبح الامر فيه الكثير من السخرية والبؤس بعد أن عُطلت الكثير من المشاريع والخطوات الإصلاحية تحت وطأة هذا الهاجس القادر على تعبئة الرأي العام واللعب بعواطف الناس، حتى وصل الأمر إلى التعداد العام للسكان الذي يفترض بموجب القانون أن يجرى كل عشرة أعوام مرة. حيث كان من المفترض أن يجرى هذا التعداد العام الماضي وتم تأجيله نتيجة الاحوال السياسية الإقليمية وتدفق اللاجئين، حيث إن التعداد السابق أجري في العام 2004 والذي سبقه في العام 1994، هذا التعداد ربما هو الأهم في تارخ المملكة لما ننتظر منه من إجابات عن الكثير من الأسئلة.
حيث تبرز أهمية تعداد هذا العام تحديدا أكثر من المرات الماضية، لما يمكن أن يقدمه من أرقام ومؤشرات واقعية، بعيدا عن التقديرات السنوية، وسط حالة التخمينات والأرقام المتضاربة حول التحولات الديمغرافية المفاجئة التي شهدها الأردن خلال السنوات الأخيرة، وما ارتبط بها من كلف اقتصادية واجتماعية على المستويات كافة. فقد أربكتنا الأرقام التي تتدفق من قبل وسائل الإعلام وبعض المصادر المحلية والأجنبية، وحتى من خبراء وناشطين، بشأن كلف الزيادات السكانية القسرية في مجملها، وكلف موجات اللاجئين على التعليم والصحة والبنى التحتية تحديداً، حتى وصلنا إلى الخلاف حول عدد سكان الأردن اليوم.
نحن ندفع ثمن كل يوم تأخير في التعداد العام للسكان والمساكن، ندفع ذلك نتيجة سوء التقدير في الخطط والبرامج، الأمر الذي ينعكس على كفاءة القدرات التوزيعية للدولة، وحتى الخطة الاقتصادية العشرية (رؤية الأردن 2025) كان من المفترض أن تبنى على نتاج التعداد العام للسكان لا أن تسبقه.
من المفارقات المؤسفة أن تتحول بعض المسائل الوطنية أو تلك المرتبطة بحساسية شعبية مثل الهوية والسيادة ووحدة التراب الوطني إلى مسائل قابلة للاستثمار والتوظيف وأحيانا ممارسة الفساد باستثمار عواطف الناس حيث يستند الشطار في ذلك على قدرة هذه القضايا على تعبئة عواطف الناس وعلى تصنيع الرأي العام.