كي لايطلق العراقيون النار على أرجلهم.. لنعد إلى طاولة المفاوضات

 * د. أحمد الجبوري الوقت سيّاف، وعقارب الساعة تدور بسرعة، وساعة الرمل لا تمهل المتثاقلين والمتثائبين، فقد أثخنت جائحة كورونا الاقتصاد العالمي والعراقي، وتوشحت مؤشرات أسعار النفط باللون الأحمر، انخفاضا وهبوطا إلى مستويات غير مسبوقة. وفي نيسان (أبريل) الماضي، حذرت مجلة الإيكونوميست البريطانية في مقال لها بعنوان: Dark times ahead.. The risk that Iraq might fall apart، وترجمته "الأوقات المظلمة قادمة.. خطر انهيار العراق"، وهو ما اعتبرته مسألة وقت؛ حيث أشارت المجلة إلى أن مشكلة فيروس كورونا (التي يعتقد كثير من العراقيين أنها كذبة صهيونية) ليست الوحيدة التي يواجهها العراق، فالدولة مفلسة تقريبا نتيجة الانخفاض الحاد في أسعار النفط، الذي ترتكز عليه الإيرادات الحكومية. وهو ما يعزز مقولة أن "العراق غني بنفطه فقير بأمواله". فـ 94% من الإيرادات الحكومية تعتمد على النفط، وخلال العام الحالي تراوحت إيرادات البلاد من الخام شهريا 1.4 مليار دولار، أي أقل من ثلث مبلغ 4.5 مليارات دولار التي تحتاجها البلاد شهرياً لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، الذين يربو عددهم على 7 ملايين مواطنا. إذ يتوجب على الخزينة العراقية أن توفر زهاء 4 تريليونات دينار عراقي شهريا (أي نحو 3 مليارات دولار) لدفع مرتبات الموظفين والمتقاعدين، في وقت لا تبلغ فيه عائدات النفط العراقية سوى نحو مليار و400 مليون دولار شهريا وفقا لبيانات شهر نيسان (أبريل) الماضي. وإذا ما علمنا أن الناتج المحلي الإجمالي للعراق، وفقا لأرقام العام 2019، كانت بحدود 234.09 مليار دولار، حسب أرقام وزارة التخطيط العراقية، وأن هذا الرقم قد انخفض بما يصل إلى 30٪ في العام 2020؛ بسبب انخفاض أسعار النفط، والتزامات تخفيض الإنتاج بعد اتفاق (أوبك +) والركود الاقتصادي الناتج عن أزمة كورونا، فهذا يعني عمليا أن الناتج المحلي الإجمالي لن يزيد عن 164 مليار دولار للعام الحالي على أحسن تقدير، وهو ما يعني أن الدين العام سيزيد عن نسبة 100٪ من الناتج المحلي الإجمالي (المعيار الدولي هو أن تزيد هذه النسبة عن 60٪)! كما وتهدد الأزمة المالية التي يمر بها العراق بسبب جائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط بإيقاف نحو 6250 مشروعاً في مختلف القطاعات في البلاد، وتقدر المبالغ المطلوبة لإتمام هذه المشاريع ما يقارب 100 مليار دولار، فمن أين سيتسنى ذلك؟. من جانب آخر، فإن انخفاض الصادرات النفطية تسبب بزيادة أتعاب شركات العقود والتراخيص، فالعراق، وفق ما أعلن وزير المالية العراقي مؤخرا، يمنح لشركات جولات التراخيص مليار دولار شهريا وهذه الشركات تستلم أموالها نفطا وليس أموالا، وبعد بيع النفط من سومو تقوم وزارة النفط بتسليم هذه الأموال إلى الشركات الأجنبية، وبلغت حصة الشركات النفطية من صادرات العراق خلال الشهر الماضي 25.9 مليون برميل، من أصل صادرات البلد البالغة نحو 86 مليون برميل، وهو ما يعني أن 30٪ من صادرات النفط تذهب إلى الشركات الأجنبية. علما أنه بموجب عقود وتراخيص الشركات تبلغ كلفة استخراج برميل النفط العراقي 9.5 دولار وهي ثاني أقل كلفة لإنتاج البرميل في العالم بعد الكويت وحققت زيادة صافية يومية في إنتاج النفط الخام بلغت 2.858 برميل ما رفع الإنتاج الكلي فيها إلى 3.717 يومياً. وعلى الرغم مما شهدته جولات التراخيص من إخفاقات في مراحل معينة، إلا أنها ساهمت بشكل كبير في تطوير الصناعة النفطية في العراق وزيادة إمكانياته في عمليات الإنتاج والتصدير وتدريب الكوادر العراقية, وأما الثغرات فيمكن معالجتها وتجاوزها، فالعراق يعد ثاني أكبر منتجي منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وجغرافيته تمتلك احتياطيا مؤكدا يقدر بـ 150 مليار برميل نفط. ومن المفارقات أن تصف مجلة الإيكونوميست في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، البصرة، المدينة النفطية بـ "المدينة المحطمة"، بل ونقلت عن أحد المواطنين قوله: "نحن نجهز العالم بالطاقة ونعيش في الظلام!". وخلال جولات التراخيص وقع العراق 18 عقداً، 4 في جولة التراخيص الأولى، 7 في الثانية ، 3 في الثالثة و 4 في الرابعة، بالإضافة إلى عقد حقل الأحدب النفطي، وعقد حقل شرقي بغداد/ الجزء الجنوبي، علما أن تنفيذ عقود الخدمة من مسؤولية الشركات الوطنية الاستخراجية وهي شركة نفط الشمال، شركة نفط البصرة، شركة نفط ميسان، شركة نفط الوسط وشركة نفط ذي قار. وبلغت العوائد المالية الكلية للإنتاج من حقول جولات التراخيص بين عامي 2010 و2018 نحو 571.4 مليار دولار، منها 74.741 كلف كلية (رأسمالية وتشغيلية) للشركات الأجنبية المقاولة، ودُفع مبلغ 7 مليارات دولار صافية إلى هذه الشركات عن أجور الربحية، علما أن الكلف الرأسمالية والتشغيلية التي جرى صرفها عن الموجودات في الحقول (آبار، منشآت عزل الغاز، منشآت تصنيع الغاز، منشآت حقن الماء، محطات الكهرباء، منظومات الأنابيب ... الخ) هي موجودات تعود ملكيتها إلى وزارة النفط. وتمثل أجور الربحية التي استلمتها الشركات الأجنبية المقاولة نسبة مقدارها ( 1.23 %) من العوائد المالية الكلية للإنتاج، فيما بلغ مقدار ضريبة الدخل على أجور الربحية للشركات الأجنبية المقاولة ( 2.512 ) مليار دولار في حين بلغت ربحية الشركاء الحكوميين من أجور الربحية للشركات المقاولة ( 1.596 ) مليار دولار، وبلغ العائد الحكومي نحو 98.77% من العوائد المالية الكلية للإنتاج. لم يتوقف العمل بموجب تلك العقود على إحداث قفزة بالإنتاج الكلي أو العوائد فقط، بل وفرّ عمالة عراقية بلغت 16766 شخصاً من مختلف الاختصاصات والمراتب الوظيفية يشكلون نسبة 80% من العمالة الكلية، في حين بلغ عدد العراقيين العاملين مع شركات الخدمات النفطية (المقاولين الثانويين ) أكثر من 11689 شخصاً، ناهيك عن مئات المقاولين الثانويين. كما سمحت هذه العقود بابتعاث 227 موظفاً من شركات ودوائر وزارة النفط إلى الجامعات العالمية، 75 منهم للحصول على شهادة البكالوريوس، و 127 للماجستير، و 25 للدكتوراه. وكي لا يبقى صناع القرار العراقيون يدورون في حلقة مفرغة من التلاوم وجلد الذات وتبادل الاتهامات، لا بدّ من طي صفحة الماضي المثقلة باليأس والإحباط والخوف والتردد، وإعادة فتح النوافذ وإطلاق الأمل.. وهي مهمة ليست سهلة، لكنها ممكنة، عبر الإنصات إلى رسائل ومطالبات إعادة التفاوض، وفق خطة متكاملة لمواجهة التردي الاقتصادي. وهو ما يقتضي من صناع القرار في البلاد معرفة مكامن قوة العراق وتعزيز الثقة بالداخل والخارج، والبحث عن شراكات ناجعة ومصالح متبادلة، كي لا تبقى البلاد والعباد أسيرة العقود ورهينة الاتفاقيات المبرمة في الماضي، وبالتالي فإنه لا بديل عن مراجعة العقود المبرمة مع شركات جولات التراخيص ذات الكلف المرتفعة لإنتاج الخام، وكذلك إعادة التفاوض حول جولة التراخيص الخامسة لاحتوائها على عدد من الحقول الغازية لاستثمارها بالطريقة المثلى، كذلك إجراء مفاوضات مع الشركات المتخصصة لاستثمار حقلي عكاز والمنصورية الغازيين. وبالتالي، لا مفر من مواجهة التحديات عبر استجماع القدرات والإمكانيات، وهندسة التحالفات، فالمفاوض العراقي يعرف ماذا يريد من تلك الشركات، ويعرف بالدقة نفسها ما يستطيع تقديمه لها، فالمطلوب انتصار الدولة لا هزيمة الشركات، فالمستقبل شأن يعني الطرفين. الانتظار لم يعد ضمانة الاستقرار، ولابد لحفظ الاستقرار من التغيير، والتغيير هنا يتمثل في إعادة النظر في الاتفاقيات والعقود. ربما يتساءل البعض عن الجدوى من إعادة التفاوض حول جولات التراخيص مرة أخرى، سيما وأنه تمت إعادة التفاوض حولها سابقا، وهنا نتساءل: ما الغضاضة في ذلك، فالمفاوضات السابقة عدلت الكثير من بنود تلك الاتفاقيات، بما في ذلك زيادة فترة النفاذ من 25 إلى 30 سنة، وتخفيض حصة الشريك العراقي من 25% إلى 6%، وإزالة البنود المتعلقة بالغرامات، وتخفيض سقف إنتاج الحقول. علما أن الطعن بقانونية تلك العقود أمر لا طائل منه فتلك العقود تملك الغطاء القانوني، المتمثل بالمادتين 111 و 112 من الدستور، وقانون الشركات العامة رقم 22 لسنة 1997، المادة 1 من قانون تخصيص مناطق الاستثمار لشركة النفط الوطنية رقم 97 لسنة 1967، وقرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 267 لسنة 1987 وكافة قوانين الموازنة الاتحادية وخاصة للسنوات 2016،2017 و 2018. يجب أن لا يطلق العراقيون النار على أرجلهم، وأن يعملوا، بشكل حثيـث، على ترتيب أوراقهم، وتشكيل فريق للتفاوض مع تلك الشركات الأجنبية، لتعديل الاتفاقيات أو بنود منها وتطويرها، لتتواءم والمصلحة الوطنية العراقية. فلا وقت للتثاؤب. اضافة اعلان