معنى الوطن

رنا الكواليت

استضاف الأردن العام الماضي المئات من مسيحيي العراق الذين فروا من إرهاب  تنظيم "داعش" في مدينة الموصل، وتم استيعاب غالبيتهم في قاعات عدد من الكنائس الكاثوليكية في المملكة.اضافة اعلان
وكحال أي لاجئ، فقد فر هؤلاء من دون ممتلكات، وباتوا يرزحون تحت ضغط الحاجة إلى مختلف أنواع المساعدة الإنسانية؛ كالغذاء والكساء والدواء والتعليم وبالذات اللغة الإنجليزية، لأن مصير معظم هؤلاء اللاجئين هو الهجرة إلى الدول الغربية.
وحال هؤلاء العراقيين كحال غيرهم من السوريين الذين طالتهم أفعال هذا التنظيم المتطرف وجرائمه البشعة، فأجبرتهم على الهروب من ويلات الحرب، وترك حياتهم وبلادهم وخططهم المستقبلية، وليصبحوا مهجرين يقيمون بشكل مؤقت في الأردن وكردستان ولبنان إلى أن تكتمل معاملاتهم ويستكملوا متطلبات الهجرة.
ولأنه ليس بإمكان هؤلاء اللاجئين الالتحاق بمدارس المملكة، فإنه يتم إعطاؤهم دروسا في مواد معينة في أماكن إقامتهم، حيث يتم التركيز على اللغة الإنجليزية لجميع الأعمار، مع حصص في اللغة العربية والرياضيات والعلوم لفئات عمرية معينة. وتحتل المحادثة سلم أولويات تدريس اللغة الإنجليزية، ليتمكنوا من إجراء ولو محادثات بسيطة تفي بالغرض وتمكنهم من التواصل مع المجتمع الغربي لدى وصولهم لبلد المهجر.
ومع مطلع هذا العام، انخرطتُ في برنامج لإعطاء دروس محادثة في اللغة الإنجليزية لثمانية طلبة عراقيين من كلا الجنسين، تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والتاسعة عشرة؛ نزح غالبيتهم مع عائلاتهم من منطقة قراقوش؛ والتي تكتب أيضا قرة قوش أو قرقوش. وهي بلدة سريانية تقع في قضاء الموصل، سيطر عليها "داعش" حوالي آب (أغسطس) الماضي.
وفي يوم مشمس من نيسان (أبريل) الحالي، وقفت بصحبة هؤلاء الطلبة وتحدثت معهم في مواضيع مختلفة. وتطرقنا إلى موضوع الوطن، وبالتحديد العراق. وعندما سألت إحداى الطالبات التي لا يتجاوز عمرها السادسة عشرة عن بلدها العراق، أجابت بأنها "تحب العراق حباً جماً".
وعندما سألتها عن السبب، ردت على فضولي وعيناها تملؤهما الدموع، بأنه بلدهم الذي عاشوا فيه بسلام، وبين ليلة وضحاها أجبروا على ترك "حياتهم" والفرار إلى مصير مجهول.
ومع أن إجابات الطلبة الثمانية على السؤال تباينت، إلا أنها جميعها كشفت عن حب متجذر لمسقط رأسهم، أعجز عن وصفه، لخصه أحدهم -وعمره خمسة عشر عاماً- بأن كل عالمه يكمن في قراقوش؛ فهو لا يعرف غيرها، إذ فيها أقاربه وأصدقاؤه ومدرسته وأماكن لهوه.
فتاة أخرى شرّد إرهابيو "داعش" أسرتها من الموصل، توضح جانبا آخر من صورة الدمار الذي ألحقه التنظيم بأهالي الموصل. إذ قالت إن والديها نزحا إلى إربيل، في حين لجأت هي وأخوها إلى الأردن بعد أن مكثا بعض الوقت في إربيل التي طالتها يد الإرهاب، فقرر أخوها الذي يكبرها بالعمر أن يهرب بها إلى الأردن، ومنه إلى المهجر، في حين آثر والداهما البقاء في إربيل على أمل أن تهدأ الأوضاع في الموصل ليتمكنا من العودة إلى حياتهما التي لا يمكنهما تصورها خارج قراقوش.
وبحديثي المختصر مع هؤلاء الفتية الذين يعيشون معاناة إنسانية ناتجة عن شكل من أشكال القمع والظلم، تعلمت درساً جديداً حول "معنى الوطن"؛ درساً يخرج عن نطاق البعد الجغرافي والمادي للكلمة، درساً كان قد بدأ بإيقاظ حواسي مع بدايات "الربيع العربي"، لأخرج من قوقعة النظر إلى الوطن على أنه من المسلمات في هذه الحياة، ويصبح أشبه بالروح "ويسكنني بتفاصيله كافة"؛ فهو الهوية والكرامة، والمبدأ الذي لا يساوم عليه، وهو الماضي والحاضر والمستقبل.