"أضحكني"

قبل سنوات، أضاف السيّد مارك وجوهاً تعبيرية إلى فيسبوك، للتعبير عن الرأي وتسجيل المواقف، فهناك وجه باكٍ للنكبات الخاصة والعامة، ومتضامن لما هو في محل شبه إجماع، وقلب أحمر للتعبير عن أيّ حب، والوجه المندهش إعجاباً أو استنكاراً، وكذلك الوجه الغاضب إماً تأييداً للكلام الرافض أو رفضاً له، ثم الوجه الضاحك، وهذا الوجه أفرط العرب باستخدامه، كأنهم كانوا ممنوعين من الضحك، أو كأنما كانت هناك شرطة للنهي عن الضحك، واختفت تماماً بمجرّد أن أباح السيّد مارك للعرب إبراز أسنانهم، وهي إباحة شاملة للذين أسنانهم صفراء غير مستقيمة وينخرها السوس، أو الذين أسنانهم هوليوودية بفضل السفر المتكرر إلى تركيا.

اضافة اعلان


احتار العرب في كيفية استعمال الوجه الضاحك، ربما لأنهم كانوا ممنوعين من الضحك، أو لأنهم توهّموا أن هناك شرطة سرية للنهي عن الضحك في سنوات القمع الشاملة. كان من الطبيعيّ أن يكون الاستخدام الأول هو الضحك على النكات المكتوبة، والمفارقات التي يعجز عنها صُناع الدراما العاجزون، أو مشاهد سعيد صالح مصورة أو محوّرة على اختلاف الزمن والضحك، لكني في أوقات فراغي الطويلة، عثرت على استخدامات مشوّهة وغريبة للوجه الضاحك، تؤكد أن العرب كانوا ممنوعين من الضحك قبل أن يجيزه السيّد مارك، ولأن الضحك بوجه مستعار، ولسان أحمر بلا تشوهات بيضاء، مجّاني ولا يضطرّ العربيّ لتحريك عضلة من عضلات وجهه المعطلة.


ماذا اكتشفتُ في أوقات فراغي الطويلة: عربٌ يضحكون على أوكرانية تروي كيف اغتصبها الروس، وعرب يضحكون على طفل أوكراني فقد أهله في الحرب (مع تعليقات شامتة تذكر بمآسي الأطفال العرب حازت على قلوب حمراء ووجه متضامن وعدد لا يقدر من الإعجابات الزرقاء) وعرب يضحكون على خبر مؤسف عن امرأة مضطربة نفسياً قتلت أبناءها، ويضحكون أيضاً على فيديو لهروب رجل من المطر واصطدامه بعمود الإنارة، وعلى شابّة أرادت التأكد من موهبتها في الغناء، وعلى رأي سياسي يخالف آراءهم التي لا تقبل النقض من قُبْل أو من دُبْر، ويضحك العرب على بعضهم، فيتسبّب الضحك بجريمة قتل في بلد عربي معروف بعبوسه، وهو خبر مؤسف بالتأكيد لا يستوجب الضحك.


حين كان الضحك لدينا يقتصر على ثلاث ساعات تتيحها التلفزيونات الحكومية في الأعياد، كان أكثر "إنسانية"، ويعرف، أي الضحك، مواقع الكوميديا في المسرحية، ومواقع التراجيديا، فيتوقف تلقائياً ويترك مساحة للعين لتدمع. كانت الضحكات تحبّها الكاميرا، تلتقطها ويضعها المحرّر على الصفحة الأخيرة، ويطلق عليها عنواناً عزيزاً هو "ابتسامة الأسبوع"، وغالباً ما تكون الصورة لبائع جوّال أو ماسح أحذية لا يعرف أين تقع تركيا، فنبتسم بالعدوى أسبوعاً من ثمانية أيام، ولا نسرف بالضحك، فلا بدّ من مجزرة في بلد شقيق، أو أنين معتقلين في بلد شقيق "آخر"، وكان هناك مثل الآن، غزو واجتياح، واحتلال، وزلزال، وكان لدينا ما تبقى من إحساس.

المقال السابق للكاتب

مشي جماعي إلى الجسر المعلّق