القاتل الصامت

على صدع سان اندرياس الزلزالي، شيدت الأبراج البرتقالية المتقابلة التي ستحتضن جسر البوابة الذهبية المعلق؛ أحد أهم معالم سان فرانسيسكو ، فكرة الجسر الذي كاد أن يصبح مجرد مخططات عبثية أوقفتها كلف الإنشاء التي طالب بها مهندسه (شتراوس) والتي وصلت الى ما يقدر بثلاثة أرباع قيمة المدينة التي سيشيد فيها (سان فرانسيسكو) وخصوصا أن ذروة الفكرة اصطدمت مع أكبر كوارث الاقتصاد التاريخية في العام (1929) والتي عرفت بالكساد الكبير، ولكن ما إن جاء عهد (روزفلت) حتى كان سبب الإيقاف ذاته هو المحفز للعودة للإنجاز، فكانت رؤية الرئيس الأميركي تقوم في حينها على إحياء المشاريع الرأسمالية لكسر حدة البطالة التي التهمت المجتمع، ومن هذا الباب كانت عودة الجسر ليصبح في حينه أطول جسر معلق على وجه الأرض، وأكثر من ذلك فقد سجل ضمن عجائب الدنيا السبع الحديثة، وفقاً للجمعية الأميركية للمهندسين المدنيين، وبذلك تحول الى أكثر من مجرد جسر؛ حيث ترصد الأرقام أكثر من عشرة ملايين سائح سنوياً لهذا المعلم المعماري. ولكن من بين ملايين المرتادين ظهرت فئة غريبة من الزوار، وهم المنتحرون الذين اختاروا إنهاء حياتهم بالقفز من أعلى الجسر، بالبداية كان الأمر غير لافت حتى بدأت الأرقام تصعد للمئات، فبدأت ظاهرة التهافت للحصول على رقم مميز في عداد القافزين لحتفهم لدرجة أن بعضهم كان يحمل لوحة رقمه أثناء قفزته الأخيرة. خلال هذا الجنون، وتحديداً في العام 2003، قدم (ايريك ستيل) طلب ترخيص ليثبت كاميرات على الجسر ادعى أنها ضمن مشروع ينوي فيه إنتاج فيلم عن أهمية هذا النُصب، لكن الحقيقة كانت أبعد من ذلك بكثير، ففي العام 2006 قدم ستيل فيلمه الصاعق “الجسر”، والذي كان خلاصة رصد كاميراته التي كانت توثق عمليات الانتحار. خلاصة موجعة قدمها الفيلم منهم أشخاص بسطاء منهمكون في الحياة يعبرون الممر مع المشاة بكل هدوء، وفجأة ومن دون مقدمات يرتقون الحاجز ويدفعون أنفسهم للنهاية، لم يقف الوثائقي عند هذه النقطة بل انتقل للتواصل مع الأفراد المحيطين بمن رصدت كاميراته انتحارهم في محاولة لفهم أبعاد القرار الذي دفع الشخص لإنهاء حياته، وخلال التقصي تكررت مفردات: الانهيار النفسي والعاطفي، الإدمان، خسارة فرد من العائلة، فقدان احترام الذات، الوحدة، متاعب الحياة اليومية، ببساطة إنها وصفة الاكتئاب بكل أركانها. هناك ما يقارب ثلاثمائة مليون شخص مصابين بالاكتئاب بمختلف درجاته حول العالم، وفي التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية، يصنف الانتحار كثاني سبب رئيسي للوفيات بين الفئة العمرية (15-29) عاماً بمعدل يقارب المليون روح سنوياً، من الواضح أن هذا القاتل الصامت يختار فئة ضحاياه بعناية؛ حيث إن أصعب فترات العمر هي المرحلة التي ينتقل فيها الإنسان من صناعة القرار الى اتخاذ القرار. خلال هذه المرحلة، تهاجم سلسلة متتابعة من الأحداث شبكتنا العصبية وتتدرج في تهشيم ذاتنا، يتبعها فقدان عجيب للدهشة تخذلنا خلاله الطاقة النفسية أو ما يعرف في مدرسة (يونغ) للتحليل النفسي بالليبيدو، وقد أبدع في وصف هذا الفهم (ألبرت مورافيا) في روايته (السأم)، ويطبق القاتل الصامت أنيابه لحظة التقاء اليأس الداخلي مع العجز في السيطرة على الأحداث الخارجية، وهنا تبلغ الذروة، فتنتقل لمرحلة الخلاص من خلال الموت، معركة كان يمكن تلافيها لو تم تدريب أبنائنا فيها على آلية صناعة قراراتهم وتحمل نتائجها. يقول النجم الذي طالما أضحكنا جيم كاري بعد أن عاد من رحلة العلاج “الاكتئاب هو صورتك الرمزية التي تخبرك بأنك سئمت من أن تكون الشخصية التي تحاول لعبها”!اضافة اعلان