سأظل أحبك..

د.لانا مامكغ كنّا نتسلّى بشربِ الشّاي بالنّعناع تحت شجرة التّوت الوارفة مستمتعين بنسمات منعشة بعد يومٍ حار، حين أقبلتَ علينا بخطواتٍ بطيئةٍ متردّدة، ووجهٍ شاحب، وعينين حمراوين ذابلتين … بدوتَ مُنهكاً ضجِراً مختنقاً، فجلست معنا وأنت تتأمّلُ المكانَ كأنّك تراه لأوَّل مرّة، ثمَّ أخذتَ نفسَاً عميقاً كأنّ رئتيك تستقبلان الهواءَ لأوّلِ مرّة كذلك … كنتُ أراقبُ ذلك كلَّه بقلق لمّا لكزتني أمّك فجأة، ففهمتُ أنَّ عليَّ تذكيرَكَ بالعودةِ إلى الدّاخل للدّراسة، وكان ما أرادتْ، فعدتَ بهدوء إلى غرفتك الكئيبة ذاتِ المروحةِ البلهاء! بني، هل تعلم أنّي لم أنم ليلتَها؟ كنتُ ممّزقاً بين خيارَين؛ أنْ أصِارِحك بموقفي التّاريخي النّاقم على التّوجيهي عموماً، وكيف أصحو أحياناً من كابوسٍ مفادُه أنّي لم أصل في وقت الامتحان، أو أنّي نسيتُ المعلوماتِ جميعَها وأنا أحاولُ البدءَ بالإجابة … وبين تسليمي بأنْ لا سبيلَ لمواصلةِ مشوارك العلمي إلا بالخروج من عنق هذه الزّجاجةِ الّلعينة! هل تعلم أيّها الغالي أنّي وأمّك لم نكن يوماً من الطّلبة الأفذاذ؟ أتذكّرُ هذ دائماً وأنا أراك كلَّ مرّةٍ قابعاً في صومعتك متلقيّاً لأوامرنا وتنبيهاتنا التي لا تنتهي، لأتساءل يوميّاً عن الفائدة ممّا يجري؟ إذ يأتي هذا الامتحانُ في أوجِ يفاعتكم، يعني في عزّ العنفوان والتّمرّد، والمرح، وعشق الانطلاق… فتعتقلون داخلَ بيوتكم عنوةً، لنتولّى نحنُ أولياءَ أمورِكم شؤونَ التّعذيب… بدءاً بقائمة الممنوعات المتمثّلة في الخروج، التلفزيون، الأصدقاء، السّهر، وانتهاءً بمحاضراتنا الممّلة عن المستقبل الجامعي، والتّخصّصِ وفرص العمل الذّهبيّة الواعدة الباهرة التي تنتظركم! بني، أيّها الغالي، أعرفُ أنّه كلامٌ عاطفيٌ انفعالي، لكنْ صدقاً، لا أعلمُ شيئاً عن جدوى التّجربة، لعلّها تفيدُكم في اكتساب مهاراتٍ معيّنة في ضبط النّفس، أو إدارة الوقت، أو التّعاملِ مع الفزع وأنتم على مشرحة التّقييم… لكن ما أجزمُ به، هو أنَّ المعرفةَ المنشودة هي أقلُّ المكاسب، فمن منّا يتذكّرُ ما درسَ في ذلك العام العصيب؟ بمعنى أنَّ ما يُمتحنُ به الطّالبُ هو قدرة ذاكرته القريبة على استرجاع المعلومات فقط، لصبّها من جديد على ورق الوزارة… تلك التي إن شاءت وضعَ أسئلةٍ تقوم على التّحليل والرّبط والاستنتاج … قامت قيامتُنا نحن أهالي الطّلبة بداعي أنّها أسئلةٌ من خارج المنهاج! وهكذا، ينتهي الأمرُ بتقييم قدراتِكم على الحفظ والاستذكار ليس إلا، لتُختزلَ شخصيّةُ كلٍّ منكم برقمٍ غبي يرسمُ مستقبلَه كلّه، ليُحدّدَ ملامحَه بصرامة! وأنت أكبرُ من ذلك يا بنيّ، فأنا أعلمُ أنّك تملكُ خصائصَ رائعة، يكفي أنّك كنتَ معلّمي الأوّل في طلاسم الحاسوب، وكم استوعبتني لمّا كنتُ أفقدُ أعصابي عند أي مشكلةٍ تقنية سخيفة، وأعلمُ جيّداً أنّك تملكُ صفاتٍ رجوليّةً جميلة، فأنت شهمٌ ونقيٌّ وصادق، ولديك قدرةٌ على العطاء والحنوّ على من هم أضعفُ منك… باختصار، سأظلُّ أحبّكَ، وأفتخرُ بك، بغضِّ النّظرِ عن نتيجتك في الامتحان إيّاه… سأظلُّ سندَك وظهرَكَ حتى آخرِ يوم من عمري! ملاحظة: أنت مدعوٌ هذا المساء لقضاء الوقت الذي تشاءُ بيننا، مع أحلى كوبٍ شاي بالنّعناع لعينيكَ الحبيبتين… المقال السابق للكاتبة للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان