سيكولوجية "الحارة التحتا"

موفق ملكاوي عشت في مكان أقرب إلى”الحارة التحتا” من قرية صغيرة، وهي عيشة تكاد تفتقد لأي امتياز يمكن أن تفتخر به حين تجادل أقرانك حول أي شيء في بيئتك تلك. حتى اسمها يشي بالدونية وعدم الأولوية، وربما بالتخلف؛ هي “تحتا”، أي سفلى. القرى محكومة دائما بـ”طبقية الحارات”، وهي طبقية فاعلة ومؤثرة، خصوصا حين تمنحها الطبيعة الدراما المطلوبة لتجذير الاختلاف، وتدوين الأحقية بالاسم والتصنيف. “الحارة الفوقا” امتلكت جميع الامتيازات تقريبا. مساحتها أكبر بزهاء ثلاثة أضعاف، ما يدلل على أن أملاك قاطنيها أكبر من أملاك قاطني الحارة التحتا، وهي قد تكون ظاهرة تؤسس لطبقية فعلية وليست مجازية، قد ينبني عليها الفعل ورده في تعامل سكان الحارتين في ما بينهما. الدكانة الوحيدة في القرية، كانت في “الحارة الفوقا”، لتعزز “الأمن الغذائي” لها، والذي يبقى الآخرون محكومين فيه لرضا أصحابها. الملعبان الوحيدان اللذان يبسط فوقهما الأطفال ألعابهما فيها كذلك، وهو أمر مهم، إذ يتوجب على جميع الأطفال أن يدخلوا في علاقات مداهنة ونفاق مع أصحابه لكي يتسنى لهم أن يحظوا ببعض اللعب، أو أنهم سيطردون من تلك المتعة. المجلس الرئيسي لرجال القرية، وأول شاب تغرب، والسيارة الأولى في القرية، وأول “بطولة” لرجل يتزوج اثنتين بفارق سنوات قليلة، كانت من نصيبها. لا شيء يمكن أن يفاخر به العابثون والقابعون في ثنايا الحارة التحتا، سوى أن يظهروا الولاء والطاعة، وفي القلب غصات كثيرة! المسجد؛ حتى المسجد الوحيد، كان قابعا فيها بشموخ، ليؤكد أن الدنيا والآخرة لها. إنها هيمنة الموارد في مقابل الاحتياجات الأساسية. لعل صديقنا “ماسلو” كان يراقب لعنة “الحارات” حين اهتدى إلى ابتكار هرمه ذائع الصيت. طبيعة اهتمام الأولاد مختلفة بين الحارتين، ففي حين كان أبناء الحارة التحتا ينخرطون في تمثيل حروب عبثية يشنونها على نبات “العوصلان” في بعض المواسم، يبرع أبناء الحارة الفوقا في صناعة الفخاخ، ولعب الكرة، والذهاب إلى السينما في المناسبات والأعياد، ليتحدثوا بعدها عن أميتاب باتشان وأمجد خان وزينات أمان وبروسلي، وغيرهم الكثير. كل شيء كان ينبئ بالتميز والتفوق، بينما يقبع الآخرون في نهاية السلم كما لو أنه تاريخ يدون صعود القادة، في مقابل آخر اجتماعي هامشي لا يؤثر في سيرورة الأحداث، لذلك لا بأس بإهماله وعدم تدوينه! لسنوات طويلة، كنت أفكر دائما حول ما الذي يمكن أن تخبر به الحارات عن تراتبية الناس؟ سؤال صعب بالتأكيد، ويحتاج دراسات إنسانية جادة، وليس إلى أفكار معلبة جاهزة تتضمن انطباعاتنا. ولكن بالتأكيد هناك علاقة ما تمنع تجانس الفريقين، وربما تؤدي إلى صدامات محتملة في أي وقت. الحارة الفوقا دائما تمتلك سرديتها الخاصة، تحاول أن تبني تاريخا مزيفا في كثير من تفاصيله، ولكن من ذا الذي سوف يدقق خلف كتابة التاريخ الجديد ما دام المستمعون والقراء شاعرين في الأساس بعقدة النقص الذاتية، ومهزومين من قبل أن يدخلوا أي حرب أو منافسة، بما أن “الآخر” متفوق عليهم حتى قبل أن يتكلم!؟ لـ”الحارة الفوقا” صفات تقترب من “الشعب المختار” أو “الفرقة الناجية”، فجميع النعم والموارد والتسهيلات تتوفر لأهلها، بينما يبقى سواهم مستلبين لهم؛ غيرة ونفاقا في آن. رفض الواقع في سياق كهذا سيكون أمرا غير واقعي، لذلك تبتلع ريقك وتحفظك الذي كنت تنوي أن تجعله رفضا، وتسير مع القطيع. بالنسبة لي، كان الأمر أكثر سوءا، فقد كنت أعيش في منتصف الحارتين. تماما كما لو أنها الأرض الحرام، أو خط الهدنة في حرب ما. لم أكن محسوبا على أي طرف، ولم أدخل في حسابات أي منهما. لعل ذلك ما جعلني لا أتشابه مع أحد، وأبقى مهزوما من الفريقين! لسنا مجرد كائنات عقلانية تسعى لمعرفة وفهم العالم، يقول شوبنهور، ولكن، أيضا كائنات راغبة بالحصول على أشياء من هذا العالم. تلك حكمة تلخص حالنا كبشر، ولكن ماذا نفعل حين نكون عاجزين عن امتلاك ما نرغبه، ما الذي سيفيدنا فهم العالم كله! المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان