عجز لغة الإعجاز

وصف المذيع المجزرة بأنها مروعة، وفي اليوم التالي قال عن المجزرة التي تفوق الأولى في عدد الضحايا، إنها مروّعة أيضاً. أعتقد أن المذيع بحث عن مفردة أخرى يصف فيها المجزرة الثالثة "الأشد ترويعاً" والتي فاق عدد شهدائها خمسمائة، لكنه لم يجد في "لسان العرب" الطويل ما يسعفه، فتلعثم على الهواء بين الجثث الجديدة، وكرر المفردة القديمة. كان هذا أول الحرب، قبل أن تستمر المجازر في مواعيد يومية ثابتة، وبعدد "مروّع" من الضحايا.. عدد فاق القاموس والمحيط، وهزّ أساس البلاغة. 

اضافة اعلان


في أول أسبوع من نفاد الماء في غزة، قالت مسؤولة أممية بتأثر يصعب تصديقه، إن الوضع كارثي في القطاع، ولما صار الأطفال يفتحون أفواههم للسماء ليشربوا، كان الوصف أيضاً أن الوضع كارثي، وهو الوصف الذي يشمل أيضاً استخدام نحو ألف عائلة لحمّام واحد. انتشرت أمراض جديدة بلا أسماء، ووصل الجوع إلى أظافر أقدام الغزيين، وخرجت كل المستشفيات عن الخدمة، وصارت مقابر جماعية، ولا وصف بين اثني عشر مليون كلمة عربية سوى تركيب بائس هو "على شفا الانهيار"، ولما يقصف الطيران هذا "الشفا"، يظلّ الوصف بأن "الوضع كارثي".   


أربع وعشرون درجة للحب في اللغة العربية، رغم أن العرب يعرفون أن الغرام ليس ضرورياً للإنجاب، وأربع وعشرون كلمة للحرب مع أن العرب يفضلون الكيّ على القتال، وأربع وعشرون كلمة للسلام، ولا تجتمع دولتان بيننا إلا للمكيد بالثالثة. إذاً فإن هذا "المستودع الشعوري الهائل" الذي يحمل خصائص الأمة وتصوراتها وعقيدتها وتاريخها، ليس في سردابه مفردة واحدة تصلح لوصف مأساة غزة بعد ثلاثة أشهر من هجوم مغولي، تتاري، فاشي، ونازي.. هل انتبهتم كيف عجزتُ على الإتيان بمفردة واحدة جديدة، في لغة الإعجاز!  


 عجز العرب عن إدخال رصاصة واحدة إلى غزة، وبدلاً من إرسال أحذية للمقاتلين، أرسلوا الأكفان بمختلف المقاسات. لم يستطع الوطن الكبير من مائة إلى مائة أن يرسل مياهاً صالحة للشرب إلى غزة، فرفع العرب أكفهم للسماء أن تمطر على القطاع، ولم تستطع أمة الآبار أن تدخل سيارة نقل متوسطة محملة بالوقود، فأرسلت لأهل غزة حطباً آمناً من دون أعواد ثقاب. وإن كان العرب عاجزين عن إدخال الفوط الصحية، فلماذا لا يكونوا أكثر فائدة، ويتداعى اللغويون إلى اجتماع طارئ، ليدخلوا إلى القطاع كلمة واحدة، كلمة لا تصلح سوى لغزة.  


.. فلولا "الشجاعية" لما كانت الشجاعة في اللغة تعني البطولة، ولولا "حانون" ما كان في الحنين دمع، ولولا "جباليا" ما تجرأت الهضاب على الجبال، ولولا غزة ما ندم الغزاة.   

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا