"بالمؤمنين رؤوف رحيم"

د. محمد المجالي*

ليس عبثا أن يذكر الله سبحانه وتعالى نبيه، صلى الله عليه وسلم، باسمه خمس مرات (أربع منها باسم محمد، وواحدة باسم أحمد)، كلها في سياقات متعلقة بالجهاد والقوة والإعداد؛ ففي سورة آل عمران يأتي قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (الآية 144). وهي في سياق الحديث عن غزوة أحد، وما كان فيها من قتال وعتاب، قال الله تعالى في سورة الأحزاب: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" (الآية 40). ولعل اسم السورة يكفي في وصف أحوالها؛ وإن كان جزء منها يتحدث عن بيوت النبي ونسائه صلى الله عليه وسلم، لكن موضوع الجهاد حاضر فيها. أما في سورة محمد، فقد قال الله: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ" (الآية 2). وهي أيضا تسمى سورة القتال، فاسمها دال عليها. أما الموضع الرابع فهو في سورة الفتح في قوله تعالى: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..." (الآية 29). وهي أيضا من اسمها تتحدث عن الحركة والجهاد. والفتح هنا وإن كان مقصودا منه صلح الحديبية، إلا أن الموضوع العام للسورة الحركة والقوة والجهد. وأخيرا في سورة الصف، وهي أيضا من اسمها تدل دلالة واضحة على القتال، يقول الله تعالى: "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" (الآية 6).اضافة اعلان
لا أريد من هذا الوصف العام لورود اسم محمد، صلى الله عليه وسلم، التركيز على جانب دون آخر من صفاته وسيرته، تماما كما يفعل بعض الناس عند إحياء شيء من ذكراه عليه الصلاة والسلام؛ بالتركيز على صفات الرحمة والرأفة دون غيرها. فالمحقق المحايد المنصف يجمع صفاته كلها، صلى الله عليه وسلم؛ فهو قدوتنا في شأنه كله، وهو مشرّع عن ربه، طاعته واجبة علينا، وحبه المقرون باتباعه مطلوب. هكذا فلنتذكر نبينا صلى الله عليه وسلم. أولا، هو الرحمة والرأفة، وهو الأخلاق السامية والحلم والكرم والتواضع، وهو الشدة على الكافرين والقوة على الأعداء، والغضب عندما تُنتهَك حرمات الله تعالى.
ينحني الرأس خجلا، ويتلعثم اللسان اضطرابا من عظيم تقصيرنا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا. وحين يقول الله جل وعز عن رسوله صلى الله عليه وسلم: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" (التوبة، الآية 128)، فإننا نقف وقفة مراجعة ممزوجة بشوق عارم للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. والمؤمن لا يتذكر محمدا في العام كما هو الشأن في أعياد الميلاد، بل هو حي في قلوبنا وعلى ألسنتنا؛ فقد رفع الله ذكره وقرن اسمه باسمه، وما من ساعة إلا ونصلي عليه –صلى الله عليه وسلم- أو نذكره في الشهادة مقترنا بشهادة أن لا إله إلا الله، أو أن نتدارس سيرته وسنته. ويا لرأفته على أتباعه، يعز عليه كل ما يسبب العنت والمشقة، حريص على أتباعه لا يهجرهم ولا يهملهم ولا يقسو عليهم، بل الحرص كل الحرص على هدايتهم وأداء حقوقهم، وهو رؤوف رحيم عليهم. ولا بد من التأكيد على أن المؤمنين فيما بينهم رحماء أذلة، وعلى أعدائهم أشداء أعزة؛ فعقيدة الولاء والبراء حاضرة مرتبطة بالإيمان بالله تعالى.
وبمناسبة ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم، نتذكر بعض حقوقه: حبه واتباع سنته وتوقيره. أما حبه، فينبغي أن يكون عملا واتباعا، لا قولا وادعاء. والله سبحانه وضّح أن الحب اتباع بقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" (آل عمران، الآية 31). وإن كنا نريد هذا آباء وأزواجا، فكيف نتقاعس عنه مع الله ورسوله؟! والمحب لمن يحب مطيع، كما هو معلوم بالطبع (لو كان حبك صادقا لأطعته.. إن المحب لمن يحب مطيع). والآية وإن كانت واردة في حق حب الله، إلا أن المعنى نفسه متوجه إلى حب الرسول وحب غيرهما ممن أمرنا الله بحبهم واتباعهم.
أما موضوع سنته، فهي وحي. إذ من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي القرآن ومعه "السنة"؛ فهي من عند الله تعالى، وهي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن. وصدق الله: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (الحشر، الآية 7). ونحن مأمورون بطاعته كما في أكثر من آية: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" (النساء، الآية 59). ونعجب كل العجب ممن يشكك في اتباع السنة عموما، وإن قيل له عن حكم ما إنه ورد في السنة، فهو متقاعس بحجة أنه لم يرد في القرآن! أما السنة من حيث الحكم الشرعي (النافلة) فنتقاعس أيضا بحجة أنها ليست فريضة، ونتناسى أن المشرع طلبها لكن لا على سبيل الإلزام، إضافة إلى كونها تجبر أي نقص في الفريضة!
أما موضوع توقيره صلى الله عليه وسلم، حتى بعد مماته، فقدوتنا في ذلك صحابته والعلماء. وهذا الإمام مالك يخفض صوته في مسجده، وربما طأطأ أحدهم رأسه خجلا منه صلى الله عليه وسلم، ولنستشعر وقوفنا عند قبره صلى الله عليه وسلم، ونتذكر عظمة حقه تعالى فيما كان فيه محمد مضحيا مجاهدا منشغلا، أين هو وصحابته وأين نحن؟ فلا أقل ونحن في أمس الحاجة إلى رحمة الله ونصره والوحدة التي نتطلع إليها جميعا، أن نتذكر أن محمدا هو أحد الجوامع لهذه الأمة.
إن خير رد على مبغضي محمد صلى الله عليه وسلم والمستهزئين بشخصه ممن رسموا رسوما مسيئة أو كتبوا أشياء قبيحة، هو المزيد من الالتزام والالتفاف حول طريقه؛ هذا الذي يُفرِح النبي صلى الله عليه وسلم، لا الاحتجاج وحده أو مجرد الرد، فكل أصحاب الدعوات تعرضوا للإهانة، ولكن لا بد من ساعة ينتصر فيها الحق ولو بعد حين.


*أكاديمي أردني