التكيف مع عالم متعدد الأقطاب

1707904038232981900
فلسطينيون في مبنى دمره القصف الإسرائيلي في غزة - (أرشيفية)

على الشرق الأوسط وأوروبا التفكير بطريقة استراتيجية في ظل النظام الدولي الناشئ اليوم والأكثر تعقيدا مما سبق.
*   *   *
بدأ العام 2024 على وقع توالي فصول الحرب في أوكرانيا، واستمرار الصراع الدائر بلا هوادة في قطاع غزة، وتفاقم أزمة الملاحة في البحر الأحمر، فيما روج المحللون لسرديات جديدة عن نشوء عالم متعدد الأقطاب، ونظام عالمي بديل في ظل الانحدار المتواصل لأوروبا.

اضافة اعلان

 

وتتأثر دول الشرق الأوسط وأوروبا بشكل مباشر بمثل هذه التطورات، وستتأثر بها أيضا علاقتهما المتبادلة إذا لم يبدأ الجانبان بالتفكير في استراتيجية جديدة من خلال صياغة رؤية مشتركة للمنطقة تطال مجالات الأمن والسلام والطاقة والتكنولوجيا والاستثمار.


من منظور أوروبا، يرتدي مفهوم التعددية القطبية في عالمنا اليوم أشكالا كثيرة. بداية، ثمة دائما أطراف مزعزعة للوضع القائم. فقد أعادت روسيا الحرب إلى الأراضي الأوروبية، ما أسفر عن تداعيات ألقت بظلالها على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي.

 

وفي غضون ذلك، ترفع إيران ووكلاؤها سقف تهديداتهم وهجماتهم في منطقة الشرق الأوسط. وتعمل كوريا الشمالية على تعزيز ترسانتها العسكرية.

 

وفي موازاة ذلك، تسعى بلدان أخرى، مثل الصين وتركيا، إلى الاضطلاع بدور أكبر على الساحة الدولية.

 

وختاما، يشهد العالم تحالفات جديدة قائمة على المصالح الاقتصادية تطرح تحديا متناميا على النظام العالمي القائم، مثل توسيع نطاق مجموعة (بريكس) مؤخرا من خلال انضمام دول جديدة إلى عضويتها.


من النتائج التي أفرزتها هذه المعطيات تضاؤل الدور الذي تؤديه المؤسسات الدولية والإقليمية.

 

فقد أُصيب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بحالة أشبه بالشلل نتيجة حرب أوكرانيا، منذ أن استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) للاستمرار في غزوها بحصانة سياسية كاملة، فيما أكسبها تهديدها باستخدام أسلحة نووية تكتيكية هامشا نسبيا للإفلات من العقاب خلال عمليتها العسكرية.

 

واتخذ مجلس أوروبا، حامي مبادئ حقوق الإنسان في القارة الأوروبية، قرارا بطرد روسيا من عضويته بعد بدء غزو أوكرانيا، بينما ما تزال تركيا عضوا في المجلس على الرغم من عدم امتثالها لقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.


إذا نظرنا أبعد من السرديات التي تسلط الضوء على تراجع النفوذ الأوروبي في العالم، أو تُركز على "انسحاب" الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى من الشرق الأوسط، ترسم الوقائع على الأرض صورة مغايرة. وأذكر في ما يلي أربع ملاحظات حول الوضع الراهن من منظور أوروبا.


أولا، ألقى الغزو الروسي لأوكرانيا تداعيات واسعة النطاق على عاتق دول الشرق الأوسط وأوروبا.

 

فقد فرض ضرورة إعادة تنظيم إمدادات الغاز والنفط إلى أوروبا بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، فيما ستضع السياسات البيئية "الخضراء" تدريجيا قيودا هيكلية جديدة على الاقتصاد الأوروبي.

 

ومن غير المعروف بعد ما إذا كانت الدول المصدرة للنفط والغاز في منطقة الخليج أو خارجها مثل الولايات المتحدة والنرويج، ستتمكن من تحقيق المكاسب على المدى الطويل، أو أنها ستتكبد الخسائر نتيجة هذا التغير في أنماط التجارة.


ثانيا، أسفرت الحرب الدائرة في غزة منذ شن حماس هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عن تجميد مسار الاتفاقات الإبراهيمية وانحسار زخمها السياسي.

 

وبموازاة ذلك، أدى دور إيران واليمن في الحرب إلى زعزعة استقرار المنطقة بأسرها.

 

وخير مثال على ذلك سياسة حركة "أنصار الله"، المعروفة بالحوثيين، الرامية إلى عرقلة حركة الملاحة في البحر الأحمر، ما دفع دولا غربية إلى إطلاق عمليات عسكرية لوقف هجمات الحوثيين. ونتيجة لذلك، ازدادت التهديدات المُحدقة بأمن المنطقة.


وعلى الرغم من الإدانة الواسعة النطاق لهجمات الحوثيين في مجلس الأمن وفي بيانات أربع عشرة دولة، أعلنت قيادة "أنصار الله" أنها ستستمر في استهداف السفن. وقد أفرز ذلك تأثيرات غير مباشرة، مثل تغيير مسارات سفن الشحن وإعادة تنظيم الملاحة البحرية من آسيا والخليج العربي إلى أوروبا، وأثر على الاقتصاد المصري، إذ سجلت عائدات عبور قناة السويس انخفاضا حادا.


ثالثا، عقدت تركيا اتفاق شراكة جديد مع روسيا، شمل دفعات مسبقة في إطار مشروع "محطة أكويو النووية" التي تملكها وتشغلها روسيا من أجل توليد الطاقة الكهربائية، وتأجيل جزء من مدفوعات أنقرة مقابل واردات الغاز الروسي (بعملة الروبل الروسية وليس بالدولار الأميركي)، وشراء روسيا حصصا في مصافي النفط التركية حيث يتم تحويل الخام الروسي إلى منتجات نهائية تركية، ما يسمح لموسكو بالالتفاف على العقوبات الغربية.

 

وفي العام 2023، الذي كان عاما انتخابيا في تركيا، حصلت أنقرة على فوائد مالية ضخمة لقاء تعزيز نفوذ موسكو في قطاع الطاقة التركي

 

. وفي غضون ذلك، تواصل تركيا تبني سياسة خارجية متمحورة حول الأمن في الشرق الأوسط، وتحديدا في سورية والعراق وليبيا وشرق المتوسط، ما يؤدي إلى حالة من الغموض بشأن ما يحمله المستقبل.


ورابعا، ما يزال الانتشار العسكري الغربي في الشرق الأوسط واسعا على عكس الاعتقاد السائد. وبطبيعة الحال، تحتل الولايات المتحدة مركز الصدارة في هذا الصدد، إذ نشرت عددا كبيرا من قواتها في جميع أنحاء المنطقة الأوسع، في البحرين وجيبوتي والعراق والأردن والكويت وعُمان وقطر وتركيا والإمارات العربية المتحدة. وتحتفظ فرنسا أيضا بقواعد عسكرية دائمة في جيبوتي والإمارات، وتجري عمليات في البحر الأحمر والمحيط الهندي والعراق.

 

وما تزال المملكة المتحدة تملك قاعدتَين عسكريتَين في قبرص وتجري أيضا عمليات في البحر الأحمر والعراق. وبالمجمل، يبقى الوضع الأمني في المنطقة غير مستقر إلى حد كبير في ظل ارتفاع مخاطر التصعيد.


قد تؤثر الأحداث المزعزعة للاستقرار، والأفعال العنيفة، وردود الفعل القوية على الوضع القائم في المدى القصير، لكنها لا تعني وحدها التحول إلى نظام عالمي بديل. فالعالم متعدد الأقطاب سترسم معالمه على الأرجح عوامل عدة منها: التغير في أنماط التجارة والاستهلاك، ولا سيما في قطاع الطاقة، لكن انعكاسات ذلك غير معروفة؛ واستمرار الانتشار العسكري للقوى حيث تكون مصالحها الحيوية معرضة للخطر؛ ونشوء جهات عسكرية جديدة في الشرق الأوسط ومحيطه؛ وبقاء هيمنة الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، على المجالات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والعلمية والمعيارية.


قد يخوض القادة السياسيون في الشرق الأوسط وأوروبا نقاشا حول الحاجة إلى نظام عالمي بديل، وقد يبدي قادة الشرق الأوسط خيبتهم من عجز الأوروبيين عن حل نزاعات دولية رئيسة.

 

لكن النمط الراهن من الاضطرابات وأعمال العنف والحروب المحدودة لا يبشر بحقبة مشرقة. ولضمان هذا المستقبل الواعد، لا بد من اتباع مسار الحوار والدبلوماسية.


بعد تجاوز التبعات التي خلفها هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، على القادة الأوروبيين النظر إلى الشرق الأوسط من ناحية استراتيجية، وعلى دول الخليج عرض رؤيتها حول إرساء السلام والأمن في المنطقة.

 

وفي هذا الإطار، شكلت المشاورات التي جرت يوم 22 كانون الثاني (يناير) خطوة أولى على هذا المسار، إذ تناولت الوضع في غزة وعملية السلام في الشرق الأوسط، وجمعت وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي ونظراءهم من مصر وإسرائيل والأردن والسعودية وممثلين عن السلطة الفلسطينية وعن جامعة الدول العربية. لكن من الضروري بذل الكثير من الجهود كي يصبح هذا الحوار استراتيجيا بحق.

‏*مارك بيريني‏ Marc Pierini: زميل أقدم في مؤسسة كارنيغي أوروبا، حيث تركز أبحاثه على التطورات في الشرق الأوسط وتركيا من منظور أوروبي.‏

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

  الديناميات الجديدة للجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط