تركيا وإسرائيل.. علاقة ملتبسة، لكنها مستمرة

1711665603757053700
لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو - (أرشيفية)


على الرغم من أن الحرب على غزة أدت إلى تصعيد كلامي بين أنقرة وتل أبيب، فقد استمرت العلاقات بين البلدين كما كانت من قبل، حيث ما تزال الروابط وأوجه التقارب بينهما قوية.
المكتب الصحفي للرئاسة التركية/وكالة فرانس برس.

اضافة اعلان


*   *   *
كان أول رد فعل لتركيا على اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة حذرا بشكل مدهش، مثلما كان رد فعلها على غزو أوكرانيا قد أدهش المراقبين بطابعه القانوني، حيث أصرت على احترام سيادة كييف. وفي كلتا الحالتين، عرضت أنقرة، التي تتمتع بعلاقات قوية ومستمرة مع الطرفين المتحاربين، القيام بوساطة كما سبق وأن اقترحتها.

 

وفي كلتا الحالتين أيضًا، لم تكن الازدواجية الظاهرة في هذا الموقف الأولي فقط وليدة الظروف فقط، وإنما تعود إلى الطبيعة العميقة لدبلوماسية بلد كثيراً ما أجبر، على مدار تاريخه، على اللعب بأوراق متناقضة محفوفة بالمخاطر.


في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، عندما شنت حماس هجومها غير المتوقع، كانت تركيا وإسرائيل في خضم عملية مصالحة جاءت بعد أكثر من عقد من العلاقات المتغيرة التي أوشكت في بعض الأحيان على الوصول إلى حد القطيعة، قبل الدخول في فترات شاقة من الترميم. وكانت القدرة على إدارة هذه الحالة المتقلبة هي أول ما شكل مفاجأة. وجاءت نتيجة لتقاربات سياسية واستراتيجية متعددة، وعلى الخصوص، اقتصادية.

 

فما مستقبل هذه العلاقة المعقدة في الوضع الجديد الذي تفرضه عودة مركزية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في الشرق الأوسط؟


بما أن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في العام 1949؛ أي بعد وقت قصير من إنشائها، فإن هاتين الدولتين شريكتان قديمتان تعرفان بعضهما بعضا جيدًا. وعلى الرغم من بعض المناوشات الخافتة التي تسببت فيها الصراعات الإسرائيلية العربية خلال حقبة الحرب الباردة، كانت علاقتهما المتبادلة ممتازة بعد نهاية العالم ثنائي القطب، ولم يبدُ أن وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة في بداية الألفية سينهي هذا التوافق الودي. وقد استضافت أنقرة في العام 2008 مفاوضات غير رسمية تهدف إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والنظام السوري، لكنها لم تكلل بالنجاح.


التقارب التركي مع "حماس"

 

لم تكن القضية الفلسطينية هي التي أدت إلى الخلاف التركي الإسرائيلي الذي بدأ في العام 2009، بقدر ما كان الوضع الجديد الذي نشأ مع وصول "حماس" إلى السلطة في قطاع غزة بعد انتخابات العام 2006. وهو الحدث الذي أدى إلى تصدع العلاقة التركية الإسرائيلية الذي بدأ في العام 2009.

 


عندما شنت إسرائيل أول حملة قصف واسعة النطاق على القطاع الفلسطيني من خلال عملية "الرصاص المصبوب"، سرعان ما جاء رد الفعل من أنقرة. وخلال حلقة نقاشية بقيت محفورة في الأذهان في منتدى دافوس في كانون الثاني (يناير) 2009، هاجم رجب طيب أردوغان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بحدة. ومنذ ذلك الوقت، أصبحنا نرى الحكومة التركية الجديدة تقترب من حركة "حماس" وتحاول جعلها مقبولة كشريك رسمي في المفاوضات.

 

وبعد عام من ذلك، أوشكت العلاقات التركية الإسرائيلية أن تصل إلى القطيعة عندما حاولت السفينة "مافي مرمرة"، وهي السفينة الرائدة في أسطول المساعدات الإنسانية الذي استأجرته منظمة إسلامية تركية، كسر الحصار على غزة. وأثناء عملية اقتحام المركب، قُتل تسعة من ناشطي الإغاثة الأتراك، وبدا أن العلاقات بين البلدين قد تضررت بشكل دائم.


ولكن، في العام 2013، وبشكل غير مسبوق، وافق بنيامين نتنياهو على تقديم الاعتذارات التي كان يطالب بها أردوغان كشرط لترميم العلاقات. غير أن هذه المبادرة أجهضت في العام 2014 بسبب حملة جديدة من الضربات الإسرائيلية على غزة باسم "الجدار الواقي"، التي أدانها زعيم "حزب العدالة والتنمية"، متهمًا إسرائيل بأنها "تجاوزت هتلر في الهمجية". ولم تتم استعادة العلاقات الدبلوماسية على أعلى مستوى إلا في العام 2016 بتبادل السفراء، وبعد تقديم تعويضات لعائلات ضحايا الأسطول. لكن هذه التهدئة في العلاقات لم تدم طويلًا هي الأخرى.


في العام 2019، أثارت "مسيرة العودة الكبرى" التي قام بها سكان غزة، والتي ووجهت بقمع شديد وتسببت في سقوط عدد كبير جدا من الضحايا الفلسطينيين، مواجهة كلامية أخرى بين الرئيس التركي ورئيس الحكومة الإسرائيلية.

 

وتبع ذلك تدهور جديد في مستوى العلاقات الدبلوماسية، وكان يجب الانتظار حتى العام 2022 وزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لأنقرة ليتم تبادل البلدين السفراء مرة أخرى.

 

تم ذلك في سياق كانت أنقرة تحاول فيه تسوية خلافاتها مع العالم العربي (مصر، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، إلخ)، وحيث بدا أنها دخلت مرحلة من التقارب الشامل مع إسرائيل، بعد "اتفاقيات أبراهام".


كان اللافت في هذا في آخر المطاف، علاوة على هذه التقلبات وبغض النظر عن هذا الخصام الدائم، هو المرونة التي سمحت بالحفاظ على العلاقة بين بلدين؛ فلا اقتحام سفينة المساعدات الإنسانية، ولا الضربات المكثفة المتزايدة على غزة، ولا التوترات اللفظية الحادة بين القادة، ولا القمع الدموي للمظاهرات الفلسطينية نجحت في تقويض العلاقات المتقلبة بين القوتين الإقليميتين.


مكانة الجالية اليهودية

 


حتى نفهم الكيفية التي مكنت العلاقات التركية الإسرائيلية من البقاء والانتعاش بانتظام، من المهم فهم العوامل التي تسهم في هيكلتها بصفة مستدامة. وتشكل متانة الروابط الاقتصادية المحور الأول لهذه الاستمرارية.

 

ولكي نقتنع بذلك، يكفي أن نذكر أنه خلال أعوام النزاع التي ذكرناها أعلاه، ضاعفت تركيا صادراتها إلى إسرائيل ثلاث مرات، من 2.3 مليار دولار في العام 2011 إلى 7.03 مليار دولار في 2022. وتأتي تركيا -التي تؤمن 5.2 في المائة من واردات إسرائيل- في المرتبة الخامسة بين كبار الموردين لتل أبيب، وهي سابع أكبر زبون لها بنسبة 2.2 في المائة من صادراتها، وهو ما يمثل 2.5 مليار دولار سنويا. وتتعلق هذه التدفقات التجارية بمجالات أساسية.

 

ونجد في مقدمة الواردات الإسرائيلية من تركيا الصلب، والحديد، والمنسوجات، والسيارات والأسمنت، من دون أن ننسى النفط الأذربيجاني الذي يمر عبر القوقاز وشرق الأناضول من خلال أنبوب باكو - تبليسي - جيهان فميناء جيهان. ويغطي هذا الخط 40 في المائة من إمدادات إسرائيل السنوية من النفط الخام. كما توفر مجموعة "زورلو" التركية 7 في المائة من الكهرباء التي تستهلكها إسرائيل.

 

ومن جانبها، تقوم إسرائيل بشكل أساسي بتصدير المواد الكيميائية والمواد عالية التقنية إلى تركيا. وقد لعبت هذه الصادرات دوراً لا يستهان به في تحديث الإنتاج الصناعي التركي خلال الأعوام الأخيرة، خاصة في مجال الدفاع.


كما تشكل الذاكرة عنصراً آخر في العلاقات بين البلدين يساعد على تجاوز تقلبات مسار العلاقات بينهما. كان اليهود إحدى "الملل"1 في الإمبراطورية العثمانية التي استقبلت، خاصة في مدنها الساحلية البارزة (سالونيك، إسطنبول، إزمير، إلخ)، اليهود السفارديم المطرودين من إسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر.

 

وعلى الرغم من الوضع غير المتكافئ الذي كانوا يعيشونه منذ بدايات الجمهورية، كما أبرزته حلقات عدة من معاداة السامية قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، فإنهم يشكلون إحدى آخر الجاليات اليهودية في العالم الإسلامي، في بلد لا يتنكر لهم، كما أظهر ذلك مؤخراً نجاح المسلسل التركي "كولوب" (Kulüp)، الذي يرتكز على ملاحظة دقيقة لخصوصياتهم اللغوية والثقافية.

 

وقد أسهم هذا الماضي وهذا المناخ في تدفق السياح الإسرائيليين إلى تركيا، الذين واصلوا زيارة هذا البلد على الرغم من الأزمات المتعاقبة، حيث كانوا من أوائل الزوار الأجانب قبل تشرين الأول (أكتوبر) 2023.


مصالح استراتيجية

 

أخيراً، ومهما كانت الطبيعة النزاعية السائدة في علاقاتهما، لا ينبغي التقليل من أهمية المصالح الاستراتيجية المشتركة بين البلدين. فتركيا، التي ما تزال حليفًا للغرب بحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تضم عددًا من القواعد العسكرية المهمة: قيادة القوات البرية للجناح الجنوبي للحلف في إزمير؛ ورادار الدفاع الصاروخي الباليستي في كوريسيك، الموجه بشكل أساسي نحو إيران؛ وقاعدة إنجرليك الجوية التي يمكن أن تستوعب الطائرات التي تنقل المعدات العسكرية إلى إسرائيل.

 

وفي شباط (فبراير) 2024، انضمت أنقرة إلى مبادرة "درع السماء" الأوروبية، بناءً على مبادرة أطلقتها ألمانيا في العام 2023 ودعمتها 17 دولة. وسوف يستخدم هذا المشروع، الذي رفضته فرنسا، من بين أمور أخرى، الصاروخ الإسرائيلي طويل المدى "السهم 3"، 3 Arrow.


بالإضافة إلى ذلك، تعيش الدولتان نزاعاً دائماً مع سورية. ففي أعقاب سلسلة من التدخلات العسكرية التي نفذتها منذ العام 2016، سيطرت أنقرة على شرائط حدودية من الأراضي السورية، وما تزال تديرها وتجهزها منذ ذلك الحين، حتى وإن نفت عن نفسها أي أطماع وحدوية، وادّعت أن هدفها الأساسي يتمثل في منع تواجد ميليشيات "وحدات حماية الشعب" الكردية المرتبطة بـ"حزب العمال الكردستاني". أما إسرائيل، فيقوم جيشها بانتظام، في سياق الصراعات المستمرة، بضرب مواقع النظام السوري وحلفائه (حزب الله اللبناني) في المنطقة، وإذا لزم الأمر، بموافقة روسيا.


على الرغم من أن المسؤولين في البلدين أعربوا عن خلافات ملحوظة بشأن تدخل كل منهما في القوقاز، إلا أنه لوحظ وجود تقارب استراتيجي أيضًا في العام 2020 خلال حرب ناغورني قره باغ الثانية، حيث قدم كلاهما دعما عسكريا ثمينا لأذربيجان، مما سمح لها في نهاية المطاف بإعادة إحكام سيطرتها على الجيب الأرمني.


ظل فلسطين

 

على الرغم من تيارات التقارب هذه، تبقى العلاقات بين البلدين متأثرة بانتظام، منذ نحو خمسة عشر عاماً، بخلافاتهما الدائمة حول القضية الفلسطينية -وبشكل خاص حول الوضع السائد في غزة. فبعد اقتحام سفينة "مافي مرمرة" في حزيران (يونيو) 2010، جمدت أنقرة 16 اتفاقية أسلحة مع إسرائيل.

 

وهو قرار يجب أن يُنظر إليه أيضًا على أنه تكريس للقوة العسكرية التركية الناتجة عن هذا التعاون، والذي برز مع إنشاء نظام هيكلة الصناعات الدفاعية التركية التي تغذت بالنموذج الإسرائيلي، أو من خلال إنتاج أسلحة متطورة مثل الطائرات المسيّرة، والتي كانت في الأصل تأتي من إسرائيل.


في الآونة الأخيرة، في كانون الثاني (يناير) 2024، استبعدت تركيا إسرائيل من قائمة البلدان التي يتم التصدير إليها. ويمنع هذا القرار الشركات التركية من تلقي المساعدات العامة للتصدير إلى تل أبيب، ما يبرز مجال المناورة الذي تتمتع به تركيا الآن داخل سوق تصدير كبيرة، لكنها لا تمسّ فعلاً بالعلاقات التجارية الثنائية.

 

ففي نهاية الشهر نفسه (كانون الثاني/ يناير) 2024، أظهرت إحصائيات وزارة النقل التركية أن أكثر من 700 سفينة تركية وصلت إلى الموانئ الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أي بمعدل 8 سفن يوميا. وتتعلق الشحنات المنقولة بمنتجات أساسية لآلة الحرب الإسرائيلية (فولاذ، نفط، منسوجات، الخ)، وتشمل شركات قريبة في كثير من الأحيان من دوائر السلطة في تركيا، "مما يظهر النفاق والخطاب المزدوج للقادة"، وفقًا للصحفي التركي المستقل متين سيهان.


سمح تشدد الموقف التركي بعد بداية الهجوم الإسرائيلي على غزة وما رافقه من سقوط الكثير من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، للنظام، بالبقاء في تناغم مع مشاعر المواطنين الأتراك.

 

وهذا أمر مهم بالنسبة لـ"حزب العدالة والتنمية"، خاصة وأنه من المقرر إجراء انتخابات بلدية في 31 آذار (مارس) 2024، والتي يأمل أردوغان أن يستعيد بفضلها مدينتي أنقرة وإسطنبول الرمزيتين اللتين خسرهما حزبه في العام 2019.

 

ومع ذلك، من غير المرجح أن يؤدي هذا التصلب إلى المساس بالعلاقات الاقتصادية القائمة بين البلدين، أو حتى إلى قطع رسمي للعلاقات الدبلوماسية. بدلاً من ذلك، ستحاول أنقرة، معتمدة على خبرتها في إدارة الأزمات التي اكتسبتها على مدى العقدين الماضيين، العمل على احتواء تطور علاقاتها التجارية مع إسرائيل، وتعويضها بإحياء علاقاتها مع دول الخليج (المملكة العربية السعودية والإمارات على وجه الخصوص)، وكذلك مع مصر.


قد يتيح تجاوز الموعد الانتخابي الربيعي لأردوغان فرصة العودة إلى موقف أكثر دبلوماسية، مستعملاً حجة خدمة القضية الفلسطينية، إلى جانب القوى الإقليمية الأخرى المنخرطة بكثافة منذ بداية الأزمة (قطر ومصر والإمارات العربية المتحدة).

 

لن يكون مثل هذا الموقف، في نهاية المطاف، بعيداً عن مشاعر الرأي العام، الملتبسة هي الأخرى، حيث ظل الأتراك حذرين منذ البداية، وغير مؤيدين في غالبيتهم لفكرة قطع العلاقات التجارية.

 

لذلك، من المرجح أن يعتمد النظام على مجموعة من المصالح والمشاعر المتضاربة للحفاظ على العلاقة الملتبسة التي ظلت قائمة مع إسرائيل لفترة طويلة.

*جان ماركو: أستاذ في معهد العلوم السياسية بغرونوبل (فرنسا)، وباحث مشارك في المعهد الفرنسي لدراسات الأناضول في إسطنبول. ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

لماذا قد تتغير سياسة تركيا تجاه سورية؟