ذاكرة سيئة.. طريقة ألمانيا الغريبة في التطهر من "الهولوكوست" (2-2)

‏صورة فوتوغرافية للمصورة رشا الجندي- (المصدر)
‏صورة فوتوغرافية للمصورة رشا الجندي- (المصدر)

أجوبة - (تيارات يهودية) عدد الربيع 2023


في تحريف فاسد ومنحرف في ذاته، أصبحت حقيقة أن الألمان كانوا أنجح المعادين للسامية في التاريخ ‏‏هنا بمثابة رصيد وأوراق اعتماد‏‏. من خلال إلزام أنفسهم بأن يكونوا الحماة الأكمل لليهود، استوعب الألمان تمامًا الدروس الأخلاقية التي منحهم إياها الاستشهاد اليهودي، حتى أنهم لم يعودوا في حاجة إلى اليهودي إلا كرمز؛ بمنطق "حب السامية"، أو "حب اليهود" الغربي هذا، أصبح الألمان هم اليهود الجدد.

اضافة اعلان

 

وليست هذه مسألة سلطة خطابية على الشؤون اليهودية فحسب؛ إنها أيضًا سلطة حَرفية في كثير من الأحيان، حيث أدى "حب اليهود" الناجم عن تأمل الذات بأثر رجعي إلى ظهور موجة من الألمان المتحولين إلى اليهودية. ووفقًا لهانا تزوبيري، فإن "الإحياء اليهودي مرغوب على وجه التحديد لأنه إحياء ألماني".

 

إذا كان اليهود يتعرضون للإلغاء بموجب هذه الصيغة، فإن الفلسطينيين يتعرضون للشيطنة والإقران بالشر.

 

في العام الماضي، عندما حظرت الدولة الألمانية تنظيم مظاهرات في يوم النكبة، بعد أيام فقط من مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، برَّرت الشرطة هذا القمع بزعمها، في مجاز عنصري مألوف، أن المتظاهرين لن يكونوا قادرين على احتواء غضبهم العنيف. وفي الواقع، أصبحت الهوية الفلسطينية نفسها في ألمانيا علامة على معاداة السامية، والتي نادرًا ما يتم التعبير عنها بصوت عال -حتى مع أن البلد موطن لأكبر جالية فلسطينية في أوروبا، حيث يبلغ عدد أفرادها نحو 100.000 نسمة.

 

وتقول امرأة فلسطينية ألمانية تتحدث عن التعليم في مدرستها الثانوية للصحفية هبة جمال: "كلما ذكرت أنني فلسطينية، يغضب أساتذتي ويقولون إنني يجب أن أشير إلى (الفلسطينيين) بأنهم أردنيون". وهكذا يتم حذف الفلسطينيين من الحياة العامة الألمانية. في "‏‏المثلث الأخلاقي‏‏" The Moral Triangle، وهي دراسة أنثروبولوجية أجراها في العام 2020 على المجتمعات الفلسطينية والإسرائيلية في ألمانيا سعيد عطشان Sa’ed Atshan وكاتارينا غالور Katharina Galor، قال العديد من الفلسطينيين الذين تمت مقابلتهم إن الحديث عن الألم أو الصدمة التي عانوا منها بسبب السياسة الإسرائيلية يعني تدمير مستقبلهم في ألمانيا.

 

وكما كتب تسوبيري، فإن "الجسم الجماعي الفلسطيني مصنف على أنه معاد للسامية وجوديًا إلى أن يثبت العكس. والفلسطينيون، بهذا المعنى، هم أضرار جانبية للرغبة الألمانية المتزايدة في التطهُّر من معاداة السامية".

 

الألمان اليقظون على الدوام محقون في أن معاداة السامية آخذة في الارتفاع في ألمانيا -لكن مصدرها هو الألمان البيض اليمينيون. وكما هو الحال في الولايات المتحدة، تؤكد البيانات أنها لا توجد مجموعة أخرى تقترب مجرد اقتراب من مقدار نشاطهم المعادي لليهود.

 

ما يزال حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني يجلس في البرلمان، حيث يضغط للحد ‏‏من مظاهر إحياء ذكرى الهولوكوست‏‏. وأثارت جائحة "كوفيد-19" حركة صاخبة تآمرية مناهضة للتطعيم تلوم -‏‏أنتم تعرفون مَن‏‏. وفي الوقت نفسه، يملأ المزيد والمزيد من المتطرفين اليمينيين صفوف ‏‏الشرطة‏‏ الألمانية، ‏‏والقوات المسلحة‏‏، ‏‏وأجهزة الاستخبارات‏‏، وحتى ‏‏البوندستاغ نفسه‏‏.

 

ولا يبدو أن هذا الواقع يقلق المتعصبين الألمان المعادين للسامية. بالنسبة لهم، سيكون هذا لا شيء مقارنة بـ"حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات"، التي تجعل الفلسطينيين –والمسلمين على نطاق أوسع– النقطة المحورية للنقاشات حول معاداة السامية. ويتحدث المسؤولون بين الحين والآخر عن "معاداة السامية المستوردة" التي تصل مع المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط. وكما تجادل إسراء أوزيوريك في ‏‏كتابها "مقاولو الذنب من الباطن‏‏"، فإن الألمان "يتخلصون من حمل المشكلة الاجتماعية الألمانية العامة المتمثلة في معاداة السامية ويلقون بها على كاهل الأقلية ذات الخلفية الشرق أوسطية".

 

وقد أسهم إضفاء الطابع الليبرالي على قوانين الجنسية في ألمانيا، الذي سهل على المهاجرين الحصول على الجنسية الألمانية، في هذه الديناميات، مثيرًا بذلك قلقًا بشأن الألمانية أدى إلى "المأزق المزدوج للمهاجرين" المذكور أعلاه، حيث يعيد الألمان البيض (أو "الألمان بيولوجيًا" كما يطلَق عليهم في الألمانية) تسجيل انتمائهم من خلال أداء محدد لمعاداة السامية.

 

وهكذا، أصبحت طريقة نبذ الماضي العنصري آلية لتوسيعه إلى المستقبل.
*   *   *

ليست ألمانيا هي المكان الوحيد الذي‏‏ انحرفت فيه جهود معاداة السامية تمامًا عن سكتها. في الواقع، اتبعت المنظمات المجتمعية اليهودية في جميع أنحاء العالم تدابير مماثلة ‏‏بنتائج‏‏ ‏‏غير ليبرالية‏‏ ‏‏مماثلة‏‏.

 

بالنسبة للفيلسوف إلعاد لابيدوت Elad Lapidot، مؤلف ‏‏كتاب "يهود خارج السؤال: نقد لمعاداة السامية" Jews Out of the Question: A Critique of Anti-Anti-Semitism،‏‏ فإن مثل هذه الحملات مقيِّدة ومحدِّدة بطبيعتها.

 

ويجادل لابيدوت بأن الرغبة حسنة النية في محاربة فكرة وجود اليهود كعرق متميز له خصائص بيولوجية متأصلة قد أدت إلى تحريم مناقشة اليهود باعتبار أنهم يشتركون في أي خصائص على الإطلاق، سواء أكان ذلك دينيًا، أو ثقافيًا، أو سياسيًا أو غير ذلك.

 

وكتب في "تابليت" في العام 2021: "تشكل الجماعية اليهودية التي يطرحها الخطاب المعادي للسامية وجودًا بلا جوهر، ومجتمعًا بلا صفات. إن معاداة معاداة السامية تحاول محاربة معاداة السامية من خلال إنكار وجود اليهودية".

 

وسيكون من الإنصاف فقط أن نعترف بأن اليهود، على الصعيد العالمي، هم في أغلب الأحيان المحرك لهذا العمل الملغي للذات، فضلاً عن السياسات المؤيدة لإسرائيل التي تصاحبه دائمًا تقريبًا؛ إذا كان "المجلس المركزي لليهود في ألمانيا" Zentralrat der Juden in Deutschland، أكبر اتحاد لليهود في ألمانيا، هم الوكلاء الرئيسيون لسياسة معاداة السامية في ألمانيا، فيغلب ألا تكون الأمور أفضل.

 

ولكن، هناك شيء يستحق الدراسة في ذلك الحماس بعينه الذي أخذ به الألمان على عاتقهم المهمة، وهو صدى مدمر للكيفية التي يتم بها استنزاف جوهر اليهودية والفلسطينية فعليًا من خلال عرض معاداة السامية.

 

والألمان فقط -ذنبهم، عارهم، غلبَتهم، كبرياؤهم السرية- هم الشخصيات ثلاثية الأبعاد في هذا المخطط.‏

 

وهكذا تتجلى فلسفة "حب اليهود" الألمانية كوسيلة أخرى لعرق التفوق، المفضلة على وجه التحديد بسبب قشرتها المناهضة للعنصرية. ويعمل احتضان ألمانيا الساحق للجالية اليهودية داخل حدودها، بمشاركة اليهود أو من دونها، على تأمين الصورة الذاتية الألمانية كحكَم أخلاقي بينما يلقي بعبء ذنب البلاد على كاهل العرب والمسلمين.

 

ويعمل هذا بالمثل على المستوى الدولي، حيث ترتبط فكرة "سبب الدولة" الألمانية بحماية الدولة اليهودية، إسرائيل. ولم يكن عبثًا أن يكون ماتياس دوبفنر Mathias Döpfner، الرئيس التنفيذي لشركة "أكسل سبرينغر للإعلام والتكنولوجيا"، قد نحت ‏‏مؤخرًا عبارة Zionismus über alles –"‏الصهيونية فوق كل شيء"- من دون أي إلماح إلى السخرية. وتشير هذه الكلمات إلى السطر الأول السابق من النشيد الوطني الألماني، "Deutschland Über Alles"، -"ألمانيا فوق كل شيء"- الذي تم شطبه رسميًا من النشيد بسبب ارتباطه بألمانيا النازية.

 

وقد نُحيل إلى هذا الشكل من القومية النازحة -حيث يفعِّل الألمان تطلعاتهم الوطنية من خلال اليهود ودولة إسرائيل- باعتباره تفوقية بديلة: عملية يتم من خلالها الحفاظ على التفوق القومي من خلال إسقاطه على دولة نائبة/ بديلة.‏

 

إن تداعيات هذا التحليل مهدّدِة بوضوح للفهم الذاتي للوطنية الألمانية. وإضافة إلى ذلك، نحن ندرك أنه سيكون من الصعب قبول هذه الاستنتاجات في ألمانيا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها تتضمن نقدًا للدولة الإسرائيلية -وهو موقف مهمش للغاية مسبقًا.

 

وحتى زوليك، الذي صنع اسمه من خلال استدعاء القومية الألمانية، رفض بقوة دمج انتقاد إسرائيل في مخططه، وهو موقف ساعد بالتأكيد على تأمين الاستقبال الحار الذي حظي به في الحياة الثقافية الألمانية.

 

سوف يتطلب الأمر شجاعة من المواطنين والقادة الألمان على حد سواء للشروع في إعادة استجواب ملامح ثقافة الذاكرة الألمانية -وليس على الرغم مما يدينون به لضحايا النازيين، من اليهود وغيرهم، وإنما بسببه بالتحديد.

 

‏قد تبدأ إعادة فحص من هذا القبيل في استعادة بعض المعنى لليهودية، وبعض الإنسانية لليهود الأفراد، في النفسية الألمانية. كما أنها قد تفعل الشيء نفسه بالنسبة للفلسطينيين الذين ما تزال عائلاتهم ترزح تحت نير القمع الإسرائيلي، حتى بينما تقوم السياسة الألمانية بمحو هويتهم.

 

فقط من خلال بذل مثل هذا الجهد يمكن لألمانيا أن تأمل في إنتاج رفض قوي، ليس لدوافعها القومية فحسب، بل وأيضًا للمشروع القومي العرقي الذي تحميه حاليًا في إسرائيل. فبعد كل شيء، تبقى التفوقية اليهودية التي يتردد صداها حاليًا من مستوطنات التلال إلى قاعات الكنيست، في جزء منها، إرثًا ألمانيًا؛ درسًا ‏‏منحرفًا عن "الشواه"‏‏.

 

سوف يتطلب كل هذا طريقة مختلفة للتعامل مع الذاكرة ووصفاتها للحاضر. في ‏‏كتابه "إعادة النظر في التعويضات‏‏" Reconsidering Reparations، يقدم الفيلسوف أولوفيمي أو تايوو Olúfémi O. Táíwò بديلاً عن التحول إلى فكرة ثابتة عن الماضي من أجل تحديد شكل العدالة الآن. وبدلاً من ذلك، يدعو تايوو إلى اعتناق "نظرة بناءة" إلى التعويضات "تستجيب لكل من مظالم التوزيع اليوم والنتيجة التراكمية لمظالم التوزيع في التاريخ".

 

ويتساءل: "ماذا لو كان بناء العالم العادل تعويضات"؟ يتطلب هذا الإطار التطلعي الذي يستشرف المستقبل قبل كل شيء تناغمًا مع هيكل التفوقية، ووعيًا بأن أهدافها وتعبيرها قد يتوسعان أو يتغيران.

 

في الثمانينيات والتسعينيات، دعا الألمان إلى إجراء المراجعة ومحاسبة الذات. ونظموا وقفات احتجاجية على ضوء الشموع، وشكلوا مجموعات بحث تاريخية، واحتلوا مباني الحقبة النازية من أجل ضمان الحفاظ عليها كدليل. واليوم، يتعين على شعب ألماني يريد أن يكون مُرحبًا وشموليًا تجاه الآخرين حقًا أن يستدعي ويسخِّر هذه الروح من جديد، وأن يأخذ هذه العمليات بعيدًا عن الدولة والمؤسسات التي تمولها الدولة إذا لزم الأمر، ويعيد زرعها وتأصيلها في الكفاح ضد التفوقية بكل مظاهرها. إن عمل التذكر لا يكتمل أبدًا. وفي عملية تركز على ماضٍ متراجِع، قد يبدأ هذا في أن يبدو مثل طائر قطرس.

 

قد يميل الألمان بشكل مفهوم إلى إعلان أنفسهم منتهين. ومع ذلك، ربما يكون هناك -ليس التزامًا فحسب، وإنما سلوى أيضًا في اكتشاف أن الذاكرة يمكن أن تكون أرضًا لبناء العالم أيضًا. (انتهى)


‏*"أجوبة" هو عمود افتتاحي يكتبه أعضاء من طاقم مجلة "‏‏تيارات يهودية"‏‏ Jewish Currents- عدد الربيع 2023، يعكس نقاشًا جماعيًا للقضية المعنية. هذه الافتتاحية مدينة لكل من إميلي ديش-بيكر، وبن راتسكوف، ومايكل روثبرغ، ويورغن زمرر.

 

*إميلي ديش-بيكر Emily Dische-Becker: كاتبة ألمانية مستقلة وباحثة استقصائية ومخرجة تعيش في برلين وبيروت. أسهمت في وسائل الإعلام الألمانية والأمريكية واللبنانية. شاركت في إنتاج ‏‏فيلم "شارع الموت‏‏" (2017)، الذي حصل على جائزة أودي للأفلام القصيرة في مهرجان برلين السينمائي الدولي. وهي المؤسس المشارك لشركة Friendly Fire Films وتقوم حاليا بإخراج أول فيلم وثائقي روائي طويل لها.‏

 

*بن راتسكوف Ben Ratskoff: أستاذ مساعد زائر‏. كلية لوخهايم للدراسات اليهودية، المدرسة الحاخامية (لوس أنجيلوس، الولايات المتحدة)‏. متخصص في الدراسات اليهودية المعاصرة، التاريخ، اللغة اليهودية وآدابها‏.

 

‏*مايكل روثبرغ Michael Rothberg: باحث أميركي في الأدب ودراسات الذاكرة. وهو أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن وأستاذ كرسي جمعية صموئيل جويتز للعام 1939 في دراسات الهولوكوست في جامعة كاليفورنيا ، لوس أنجلوس.‏

 

‏*يورغن زيمرر Jürgen Zimmerer: أستاذ التاريخ في جامعة هامبورغ. كان الرئيس المؤسس للشبكة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية (INOGS).‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Bad Memory

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

 

ذاكرة سيئة.. طريقة ألمانيا الغريبة في التطهر من "الهولوكوست" (1 - 2)