كيف سيتعامل الجيش الإسرائيلي مع القتال في المناطق الحضرية؟

مقاتلون من كتائب القسام الفلسطينية في قطاع غزة - (أرشيفية)
مقاتلون من "كتائب القسام" الفلسطينية في قطاع غزة - (أرشيفية)

ديفيد كيلكولين* - (فورين أفيرز) 2023/10/23
تشكل مدن غزة، وخان يونس، ورفح المكتظة بسكانها متاهات من المباني متعددة الطوابق المبنية من الخرسانة والطوب، والمنشأة في أغلبها بطريقة سيئة.

اضافة اعلان

 

وهي متهالكة وعرضة للانهيار بسبب القصف المدفعي أو الغارات الجوية. وهو أمر بالغ الخطورة على السكان المدنيين المحاصرين وعلى الجنود المهاجمين على حد سواء. يمكن أن تحد الأضرار التي يلحقها القصف بالمباني الحضرية من قدرة القوات المهاجمة على المناورة، حيث تتسبب في إغلاق الشوارع بالركام وتوجيه القوات المتقدمة إلى الكمائن المعدة للإيقاع بها.
*   *   *
على الرغم من أنه ما يزال من الصعب التنبؤ بالتفاصيل، يبدو مرجحا للغاية أن تقوم إسرائيل بغزو بري لقطاع غزة في المستقبل القريب.

 

وإذا وعندما يحدث ذلك، سوف تعرضُ الحملة عدة عناصر مشتركة في أي معركة حضرية واسعة النطاق وعالية الكثافة (بدأ الهجوم البري لقوات الاحتلال الأسبوع الماضي).

 

في مدن الفلوجة والموصل والرمادي العراقية؛ ومدينة مراوي الفلبينية؛ ومدينتي باخموت وماريوبول الأوكرانيتين؛ وفي العديد من الأماكن الأخرى، تصارعت القوات العسكرية في هذا القرن مع التعقيدات الدائمة التي تميز القتال في المناطق الحضرية.


لن يكون الهجوم البري المحتمل على غزة مختلفاً. وسوف يترتب عليه أن يتعامل مع ظروف تكتيكية بالغة الصعوبة، بما في ذلك القتال من مسافة قريبة، وحرب أنفاق يمكن أن تؤدي إلى تكبُّد خسائر فادحة.

 

وسوف يتطلب خوض معارك في البر والجو والبحر، تخاض بالتزامن وبتنسيق مُحكم. وسوف يكون القتال مُجهدا ومطولا، ويغلب أن يشكل الدمار الناجم اختبارا لصلابة وثبات الدعم الدولي للغزو الإسرائيلي.

 

ولا شك في أن يأخذ المخططون الإسرائيليون كل هذه العوامل الاستراتيجية والعملية في الحسبان يتأملون قرار تنفيذ الغزو، وأن يحددوا المسار الأكثر فعالية إذا ما قرروا المضي قدماً فيه.


في البر، والبحر، والجو


خيضت معظم الصراعات في القرن الحادي والعشرين في مناطق حضرية، متشابكة وذات كثافة سكانية عالية، ويرجع ذلك في الأساس إلى أن الصراعات المسلحة تميل إلى الاندلاع في مناطق تركز الناس. وقد شهد العالم اتجاها مستمرا إلى التمدُّن منذ الثورة الصناعية في أوروبا.

 

وبحلول العام 2008، أصبح أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في المدن، ويتوقع الخبراء أن يصل معدل التمدُّن إلى 67 في المائة بحلول منتصف هذا القرن.

 

وبالإضافة إلى ذلك، تميل المجتمعات البشرية إلى النشوء عند السواحل، وهو ما يستدعي من القوات لدى القتال في هذه البيئة المدنية تنفيذ عمليات في البر والبحر والجو معاً.

 

ومع لجوء القوات العسكرية إلى استخدام أسلحة بعيدة المدى، أصبح من الممكن استهداف المناطق الداخلية من البحر، بينما تستطيع الأسلحة المتمركزة في البر أن تستهدف السفن في البحر.

 

وعلى هذا الأساس، تشكل منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط كلها مسرحاً إقليمياً واحداً، يؤثر ويتأثر بالأحداث التي تقع في البر في غزة.


في العام 2015، ونتيجة إدراك للأهمية المتزايدة للصراع في المناطق الحضرية، أطلق "حلف شمال الأطلسي"، (ناتو)، مشروعاً يهدف إلى دراسة التحديات المستمرة التي يجلبها التوسع الحضري.

 

وشمل المشروع إجراء عدد من المناورات والتجارب الحربية، والاسترشاد بخبرات 18 مركزاً من مراكز التميز المتخصصة التابعة للحلف، إلى جانب مؤسسات العلوم والتقنية داخل الحلف و"تحالف العيون الخمس" (الذي يضم كلا من أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، وهو تحالف استخباراتي تتعاون دوله في جمع المعلومات الاستخبارية وتقاسمها وتحليلها.

 

وكان هذا التحالف قد تشكل أساسا لتسهيل التعاون الاستخباراتي بين هذه الدول أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية.

 

وقام الحلف بتقييم آثار التقنيات الناشئة والمدمرة على العمليات العسكرية المستقبلية في المدن.

 

وتشكل النتائج التي خلص إليها "الناتو" من تلك التجارب نقطة انطلاق مفيدة لفهم الصراعات من النوع الذي يلوح في الأفق في غزة.


وضع الباحثون التابعون للناتو مصطلح "الرباعي الحضري" لوصف المكونات التي تميز المناطق الحضرية، حيث تجمع المدن بين المناطق العمرانية؛ والكثافة السكانية العالية؛ وأنظمة البنية التحتية المعقدة؛ وبيئة المعلومات التي تصلها بالعالم عن طريق الشبكة الرقمية.

 

وينطوي القتال في مثل هذه المناطق على العديد من التحديات، بما فيها العقبات العسكرية، والكثافة السكانية، والتعقيد الكبير، والعديد من التهديدات التي يمكن أن تظهر على غير توقع من الاتجاهات كافة.


تتميز حرب المدن بطبيعتها البطيئة والمرهقة، وبما تجلبه من دمار واسع النطاق وضرر كبير بالبيئة المحيطة، بالإضافة إلى الخسائر البشرية الهائلة في صفوف المدنيين بشكل خاص.

 

وفيها تقع الموجهات في كل بيت وزقاء، وكل شارع وحي، وهي تستنزف الجنود والقوة النارية، وتتطلّب تأمين كل غرفة، وكل زاوية في كل شارع، وكل سطح، وكل قبو قبل المضي للسيطرة على الموقع التالي.

 

ويكون هذا النوع من القتال خطيراً بشكل خاص على القادة المبتدئين وقليلي الخبرة الذين يتعيّن عليهم وضع أنفسهم في مواقع مكشوفة للإبقاء على الاتصال البصري مع جنودهم والتواصل معهم ومع قيادتهم بشكل فعال.


تنطوي حرب المدن على تحديات استثنائية. وفيها يتمتع الاختصاصيون، مثل المهندسين العسكريين، والقناصة، والمسعفين، وطواقم الأسلحة الثقيلة، ومشغلي المسيرات بقيمة كبيرة، ما يجعلهم عرضة لمزيد من الاستهداف كما تتمتع المركبات المدرعة، بما في ذلك الجرافات المدرعة، بأهمية بالغة في هذه الحرب، وقد لعبت دوراً رئيساً في معارك المدن الأخيرة مثل تلك التي دارت في الرمادي والموصل في العراق.

 

وكانت للدروع أهمية كبيرة أيضا في باخموت وماريوبول في أوكرانيا. ومع ذلك، تكون المركبات عرضة لأضرار جسيمة ما لم تصحبها قوات من المشاة التي تتعامل مع الأسلحة المضادة للدبابات، والألغام، وأجهزة المتفجير البدائية.

 

ويشكل الدعم الذي تقدمه الدبابات حاسما لحماية المشاة الراجلين على الأرض.

 

وهناك في الوقت نفسه حاجة إلى المدفعية وقذائف الهاون والصواريخ لضرب تعزيزات العدو واستهداف الأهداف البعيدة.

 

كما تبني الجيوش الحديثة "شبكة تدمير" تتكون من المراقبين وأجهزة الاستشعار والاتصالات، والتي تتولى مهمة تحديد الأهداف التي تستهدفها الأسلحة بعيدة المدى. وفي هذا النوع من المعارك، يسعى القادة إلى الاستفادة القصوى من تأثير الأسلحة المشتركة لخلق وضع يدفع أفراد العدو إلى تعريض أنفسهم لأحد التهديدات، مثل طائرة مسيرة أو ضربة مدفعية من الأعلى، بينما يكونون بصدد السعي إلى تجنب تهديد آخر، مثل دبابة أو وحدة مشاة تتحرك على الأرض. لكن قول هذه الأشياء أسهل كثيرا من فعلها.


الآن، من المرجح أن يتحول ما بدأ بهجوم على المدنيين الإسرائيليين، والذي استغل عنصري الصدمة والمفاجأة، إلى معركة شاقة وبطيئة، ومكلفة ومثيرة للجدل، تخاض في الجو والبر والبحر والفضاء السيبراني.


قد يبدو للوهلة الأولى أن القتال في المدن يكون متركزا على الاشتباك البري. لكن القوى الجوية تلعب فيه دورا حاسما في واقع الأمر. وستكون الضربات الجوية من الطائرات الحربية أو المسيرة، أو الأنظمة الآلية وذاتية القيادة، بما فيها المسيّرات الانتحارية أو تلك التي تحمل عبوات ناسفة، ضرورية لتمكين القوات البرية من المناورة على الأرض. ويرجع ذلك إلى دور الأسلحة المشتركة في تشتيت التركيز: العدو الذي يتفرق تجنباً للغارات الجوية يصبح عرضة للهجمات البرية، في حين يصبح العدو الذي يركز على مواجهة المهاجمين هدفاً أسهل للاستهداف من الجو.

 

وبالمثل، تشكّل أنشطة المراقبة والاستطلاع التي تنفذها أجهزة الاستشعار الجوية والفضائية أداة بالغة الأهمية لفهم البيئات الحضرية المزدحمة والمعقدة.

 

وتخدم أنظمة الاتصالات والملاحة الفضائية في الاستهداف وقيادة العمليات، كما تخدم الحرب السيبرانية والإلكترونية أيضاً في هذه البيئة.


وبالإضافة إلى ذلك، تحظى الأنظمة البحرية بأهمية حاسمة، حيث تعمل السفن الحربية، والطائرات المتمركزة على متن حاملات الطائرات، بالتعاون مع الدعم المدفعي البحري والمسيرات والصواريخ التي تطلق من البحر، على تمكين القوات من المناورة عن طريق البحر، والبقاء خارج المناطق الحضرية أثناء قصف الخصوم على اليابسة. كما تساعد السيطرة البحرية عمليات إنزال القوات البرمائية أو القوات المحمولة جواً في مواقع غير متوقعة، مما يؤدي إلى زعزعة دفاعات العدو في ساحة العمليات الحضرية.


تستطيع القوات المحمولة بحراً أن تزود قائد القوات البرية بالمرونة وأن تتيح حرية المناورة وتحريك ساحات المعارك الراكدة. وفي المقابل، سوف يتطلب حرمان الخصم من استخدام البحر امتلاك صواريخ أرضية مضادة للسفن، بالإضافة إلى سفن حربية أو زوارق هجومية سريعة، أو مركبات بحرية سطحية غير مأهولة، أو مسيّرات تحت الماء.

 

وكانت كل هذه العناصر متاحة في المعارك الأخيرة في أوكرانيا، حيث استخدمتها القوات الأوكرانية بطريقة مميزة ضد البحرية الروسية في البحر الأسود.


في غزة، يمتلك الطرفان المشتبكان في الصراع بعض -أو كل- هذه الأنظمة البحرية.

 

تمتلك قوات البحرية الإسرائيلية زوارق هجومية سريعة، وأخرى حربية مزودة بالصواريخ، وزوارق الدوريات الخاصة بحرس السواحل، بالإضافة إلى مجموعة من السفن الحربية الأكبر حجما وقوات بحرية خاصة.

 

وعلى الجانب الآخر، تمتلك "حماس" قوة كوماندوز بحرية خاصة بها من قوات "النخبة"، التي تنقل عناصرها بحراً لشنّ غارة على شاطئ زيكيم في إسرائيل خلال المراحل الأولى من هجوم 7 أكتوبر، حيث استولت على قاعدة عسكرية تقع في جنوب عسقلان.

 

وعلى نطاق أوسع، تظهر أهمية القوات البحرية في المجموعتين الهجوميتين الضاربتين المرافقتين لحاملات الطائرات التي جلبتها البحرية الأميركية إلى المنطقة، والتي لديها القدرة على إسقاط الصواريخ التي تستهدف إسرائيل (وهو ما فعلته السفن الحربية الأميركية فعليا).

 

كما تجدر ملاحظة تواجد مجموعة مهام بحرية صينية في المناطق المجاورة، في حين تعمل طائرات روسية مسلحة بصواريخ كينغال بعيدة المدى فوق البحر الأسود، على مسافة قريبة نسبيا من قوات البحرية الأميركية العاملة قبالة شواطئ غزة، بما في ذلك حاملات الطائرات الأميركية.


على اليابسة، حيث يشتبك الجنود ويكون المدنيون عالقين في تقاطع القتال في المناطق الحضرية، تتضافر عناصر الخطر، والإجهاد، والشعور بالتهديد الدائم من كل اتجاه، والرعب الذي يعنيه المباشر من مسافة قريبة، لتُلحق أضراراً جسدية ونفسية هائلة بالجميع.

 

ويغلب أن تكون المعارك البرية فوضوية، سريعة تشتبك القوات فيها من مسافة قريبة، حيث غالباً ما تكون الأهداف ضمن مديات لا تزيد على 50 ياردة (45 متراً).

 

ويمكن أن ينصب تركيز الجنود على البيت أو الغرفة التي يقاتلون فيها، بينما يمكن أن تستهدفهم في الوقت نفسه مجموعات الهاون والقناصة ومشغلو الطائرات المسيرة من مسافات بعيدة.


كل هذه وقائع يعرفها جيدا كل من اكتسب خبرة قتالية خلال الأعوام العشرين الماضية.

 

وهي بطبيعة الحال مواقف مألوفة بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي الذي لعبت تجربته الكبيرة في حرب المدن، التي اكتسبها من العمليات في أماكن مثل جنين بالضفة الغربية في العام 2002، ومن جنوب لبنان خلال حرب تموز (يوليو) مع "حزب الله" اللبناني في العام 2006، والأراضي الفلسطينية، دوراً مهماً في رسم استراتيجيته ومنظوره المعاصر لكل ما يتعلق بالحرب في المدن.


الحد من الخسائر في صفوف المدنيين


كان الهدف الرئيسي للجيش الإسرائيلي في غزة هو محاولة فصل مقاتلي "حماس" عن المدنيين. وكان القصد من ذلك حماية السكان من جهة، وتحديد الأهداف المشروعة من جهة أخرى.

 

ويشكل تحقيق هذه الأهداف واحدا من أصعب جوانب القتال في المناطق الحضرية، بالنظر إلى أن قوات العدو غالباً ما تعيش وتختبئ بين السكان غير المقاتلين الذين يتحولون، سواء كانوا يدعمون العدو أم لا، إلى دروع بشرية.

 

وقد صرح الأدميرال دانييل هاغاري، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، في وقت سابق عن أن "تركيز إسرائيل تحوّل من الاستهداف الدقيق إلى الضرر والتدمير"، في محاولة لجعل المشهد في غزة غير مناسب أو غير عملي ليكون قاعدة لـ"حماس".

 

ودلالات ذلك هي أن الجيش الإسرائيلي أصبح أقل عناية بتجنب الأهداف المدنية مقارنة بنهجه السابق.


على أي حال، وفق ما أظهرته التجارب السابقة في مدينتي ماراوي الفلبينية والموصل العراقية، فإن الجهود التي تستهدف تشجيع المدنيين على المغادرة عبر نقاط العبور الرسمية أو الممرات الإنسانية المحددة لا يمكن أن تنجح بالكامل.

 

في كلتا المدينتين، أعاق المتمردون محاولات إنشاء ممرات إنسانية ليحولوا بذلك دون مغادرة المدنيين.

 

وكان المتحدثون باسم الجيش الإسرائيلي قد زعموا أن "حماس" تمنع المدنيين من مغادرة منازلهم. وحتى عندما يحاول المدنيون المغادرة، يجعل الدمار والفوضى الناجمان عن القتال في المناطق الحضرية التنقل خطيراً للغاية ويجعلان من الصعب عليهم النجاح في ذلك، وهو ما يدفع الكثيرين إلى الاحتماء في مكان آمن حيثما يوجدون.

 

وعلى الرغم من تحول النهج العسكري من الاستهداف الدقيق للأهداف إلى التدمير الهائل، يملك الجيش الإسرائيلي سجلاً في السعي إلى تجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، بما في ذلك من خلال التحذير قبل القصف باستخدام ما يسمى "طرق السطح"، وهي طريقة تقوم على إلقاء مقذوف ضعيف الانفجار أو غير متفجر على سطح المنزل المستهدف بالقصف لحث المدنيين على المغادرة قبل تنفيذ الضربة الرئيسية.

 

وهكذا، عند شن هجوم بري واسع النطاق، يمكن تصور أن يقوم الجيش الإسرائيلي بإرسال الفرق الإنسانية والمدنية لإخلاء المدنيين وفحص هوياتهم وانتمائهم ودعمهم بحيث يتمكن من تحديد وفصل مقاتلي العدو الذين قد يسعون إلى الاختفاء بين النازحين والمشردين.

 

لكن مثل هذه الجهود لا يمكن أن تحقق أكثر من نتائج محدودة، وكثيراً ما تؤدي الفوضى وانعدام اليقين في هذه المعارك إلى ارتكاب أخطاء تودي بحياة المدنيين.

 


تشكل مدن غزة، وخان يونس، ورفح المكتظة بسكانها متاهات من المباني متعددة الطوابق المبنية من الخرسانة والطوب، والمنشأة في أغلبها بطريقة سيئة.

 

وهي متهالكة وعرضة للانهيار بسبب القصف المدفعي أو الغارات الجوية. وهو أمر بالغ الخطورة على السكان المدنيين المحاصرين وعلى الجنود المهاجمين على حد سواء.

 

يمكن أن تحد الأضرار التي يلحقها القصف بالمباني الحضرية من قدرة القوات المهاجمة على المناورة، حيث تتسبب في إغلاق الشوارع بالركام وتوجيه القوات المتقدمة إلى الكمائن المعدة لقتلها.

 

وكان هذا من بين الأسباب التي جعلت معركة الموصل تستغرق عدة أشهر.

 

كان المدافعون يقاتلون من بين الأنقاض، ويخرجون من الركان لشن الهجمات المضادة ومحاصرة المقرات والمرافق اللوجستية من اتجاهات غير متوقعة.


في غزة، عملت "حماس" طوال ما يقرب من عقدين على تطوير شبكة كثيفة من الدفاعات، بما فيها واحد من أكبر أنظمة الأنفاق وأشدّها تحصيناً على الإطلاق في قتال المدن.

 

وهي تتكون من ممرات تحت أرضية تقول "حماس" إنها تمتد لأكثر من 300 ميل. ويمكن أن يشكل القتال تحت الأرض، خاصة في الأنفاق القريبة جداً من الساحل وتغمرها المياه بشكل دوري، أحد أكثر جوانب المعركة تحدياً.

 

وفي هذه البيئة، يمكن أن تساعد الروبوتات والأنظمة ذاتية التشغيل، بما فيها المسيّرات القادرة على استكشاف أنظم الأنفاق والاشتباك مع الأعداء تحت الأرض أو تحت الماء، في تطهير الممرات تحت الأرض.

 

ويمكن أن يُستخدم الإغراق بالمياه أو إلقاء الغاز المسيل للدموع وغيرها كوسائل حاسمة أيضاً لدى القتال في الأنفاق أو الأقبية أو المساحات الداخلية.

 

لكنّ احتشاد المدنيين غير المشتركين في القتال عند مثل هذه الأماكن، يجعل من استخدام هذه الأساليب خطرا كارثيا كامنا.

 

وفي نهاية المطاف، لا يمكن أن يفعل أي شيء ما يستطيع أن يقوم به المقاتلون المزودون بالأسلحة وأجهزة الاستشعار والكلاب المدربة وأجهزة الرؤية الليلية لتأمين هذه الأنفاق. وسوف تكون هذه المهمة صعبة، ومميتة، وبطيئة للغاية.


اعرف عدوك


أصبحت "حماس" الآن قوة متمكنة تقنيا ومترابطة اجتماعيا تقاتل على أرض وطنها.

 

وتعمل قواتها في مجموعات صغيرة مرتبطة معا وتستخدم أنظمة أسلحة فتاكة من النوع الذي لم يكن متاحاً تقليدياً في التاريخ الحديث سوى للقوات المسلحة الرسمية للدول ذات السيادة.

 

ويغلب أن تعمد الحركة إلى استخدام تكتيكات دفاعية شبكية تقوم على الاحتفاظ بمواقع استراتيجية واستغلال نقاط القوة لتأخير وعرقلة تقدم الجيش الإسرائيلي، بينما يتم في الوقت نفسه الاحتفاظ بقوات متحركة كاحتياط، والتي تكون جاهزة لشن الهجمات المضادة أو التسلل إلى المناطق التي تم تطهيرها مرة أخرى.

 

وسوف يستخدم المقاتلون المعدات العسكرية التقليدية المتوفرة بسهولة، بالإضافة إلى الفخاخ المتفجرة والعبوات الناسفة البدائية. وقد أظهرت "حماس" مسبقا قدرتها على خوض حرب إعلامية بارعة لكسب الدعم الدولي. 


كما يبدو، أصبح ما بدأ كهجوم مروع على المدنيين الإسرائيليين، مستغلاً عاملَي الصدمة والمفاجأة، يتحول الآن إلى معركة شاقة وبطيئة، مكلفة ومثيرة للجدل، تُخاض في الجو والبر والبحر وفي الفضاء السيبراني.

 

وسيكون من الصعب للغاية، حتى على الموجودين في الميدان أنفسهم، استيعاب ما يحدث داخل بيئة غزة المعقدة والمكتظة بالسكان.

 

كما أن العديد من العناصر، بما فيها التقنيات الناشئة، والسمات المعروفة للقتال في المناطق الحضرية التي حددها حلف شمال الأطلسي، (العقبات العسكرية، والكثافة السكانية، والتعقيد، والتهديدات المختلفة)، إلى جانب المحدِّدات المادية والبشرية والمعلوماتية وقيود البنية التحتية التي تفرضها المدن على القوات العسكرية، ستلعب كلها أدوارا مهمة في مسارات الأحداث المقبلة.


يوفّر إدراك الصعوبات التكتيكية لحرب المدن سياقا مهما يمكن لإسرائيل أن تستخدمه لدى تقويم صواب -أو عدم صواب- شن هجوم بري واسع النطاق في غزة.

 

ويغلب أن يساور المخططين في الجيش الإسرائيلي قلق من حقيقة أنه بمجرد انخراط قواتهم بشكل حاسم في القتال البري في غزة، فإن لاعبين إقليميين آخرين، مثل "حزب الله" في لبنان، والميليشيات المدعومة من إيران في سورية، أو حتى القوات الإيرانية نفسها، ربما تعمد إلى مهاجمة إسرائيل، مما يفرض عليها حرباً متعددة الجبهات.

 

وربما يفكر الإسرائيليون، على أساس هذا الاحتمال، بتوجيه ضربة استباقية إلى هؤلاء الفاعلين الإقليميين قبل دخول غزة، لكنَّ قرارا من هذا النوع ينطوي على أخطار كبيرة.


تنطوي حملة برية تُشن في غزة أيضا على أخطار استراتيجية مهمة. على الأرجح، يمكن في إطار الحرب الإعلامية التي تشنها "حماس" وإيران، أن يُنظر إلى تدمير الممتلكات والإصابات الكثيرة بين المدنيين والتهجير القسري للسكان لدى نشوب معركة حضرية في غزة، على أنه تطهير عرقي في أحسن الأحوال.

 

وسوف يلحق ذلك ضررا بشرعية إسرائيل الأخلاقية، وربما يجبرها على إيقاف العملية لضرورات سياسية بغض النظر عن مدى التقدم الذي يكون قد تم إحرازه على الأرض.

 

وكان الجنود ومشاة البحرية الأميركيون قد واجهوا وضعاً مماثلاً خلال معركة الفلوجة الأولى في العراق في نيسان (أبريل) 2004.

 

وفي ذلك الحين، أجبرت الاحتجاجات الدولية إدارة بوش على وقف العملية على الرغم من إحرازها تقدما كبيرا.

 

وقد أتاح ذلك للمتمردين التقاط أنفاسهم وتعزيز دفاعاتهم قبل خوض المعركة الثانية في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام. ويمكن ملاحظة أن تلك الحالة من الارتباك السياسي تسببت في فقدان أرواح أميركية.

 

لكنّ الضرر الاستراتيجي الناجم عن فقدان الشرعية الأخلاقية في عملية غزة يمكن أن يكون في المقابل كبيرا للغاية، سواء بالنسبة لإسرائيل أو حلفائها، بمن فيهم الولايات المتحدة نفسها.


كل هذه العوامل تشير إلى أن الهجوم البري على غزة سيكون وفق الاحتمالات مروعاً، وسوف تترتب عليه عواقب وخيمة. لكنّ هذا سيكون، كما يعرف كل جندي، خيارا ضروريا لا مفر منه، ويغلب أن تبدأ هذه المرحلة التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها في القريب.

*ديفيد كيلكولين David Kilcullen: أستاذ الدراسات الدولية والسياسية في جامعة نيو ساوث ويلز، والرئيس التنفيذي لشركة البحوث العالمية "مجموعة تطبيقات كورديليرا" Cordillera Applications Group، وهو مؤلف كتاب "خارج الجبال: العصر المقبل لحرب العصابات في المناطق الحضرية". شغل منصب كبير مستشاري الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس في شؤون مكافحة التمرد في العام 2007.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: How Will the IDF Handle Urban Combat? Fighting

Hamas in Gaza Will Be Difficult and Costly

 

 اقرأ المزيد في ترجمات:

‏إسرائيل تواجه "مهمة شبه مستحيلة" في غزة‏



جنود إسرائيليون بالقرب من الحدود بين غزة وإسرائيل، تشرين الأول (أكتوبر) 2023