طريقتان قاصرتان في تفسير الحدث الفرنسي

كانت أحداث العنف التي شهدتها ضواحي باريس، وامتدت منها الى مناطق فرنسية وأوروبية أخرى، مناسبة لعودة نوعين من التحليل السياسي الى الواجهة.

فأما التحليل الأول، وهو ما يمكن ان نسميه اقتصادياً في طبيعته، يسارياً في وجهته، فيتركز على أوضاع العمالة والإسكان والتعليم في فرنسا، ومنها يرتدّ الى خلفية سوسيولوجية–سياسية، ملاحظاً جنوح السياسة الفرنسية الى الشعبوية والديماغوجيا، وصعود الدعوات اليمينية وسط تخبّط عام يطاول الرأسمالية الفرنسية وخياراتها. ولا يغيب عن التحليل المذكور ما أحدثه بعض سياسات اليمين التي اتبعتها ادارتا فرانسوا ميتران وجاك شيراك -رغم اشتراكية الأول- من إضعاف للوسائط الاجتماعية المؤدية الى اندماج المهاجرين، كالنقابات والاحزاب، وصولاً الى تناثر الحزب الاشتراكي نفسه رؤوساً وكتلاً متناحرة.

اضافة اعلان

واما التحليل الثاني، وهو ما يمكن ان نسميه ثقافوياً في طبيعته، يمينياً في وجهته، فيشدّد على الصراع بين الغرب والاسلام، منبّهاً الى فشل التواصل بين نمطين حضاريين متباينين جوهرياً. واصحاب هذا التحليل لا يقتصرون على الغربيين ممن يرون ان ثمة مشكلة في الاسلام والمسلمين لا علاج لها، بل يشملون أيضاً المسلمين والاسلاميين الذين يرون ان ثمة مشكلة في الغرب "المسيحي" لا علاج لها. ومع ان الأخيرين يصطفون، بالمعنى السياسي الجديد للكلمة، في موقع اليسار المناهض للولايات المتحدة والعولمة، فإنهم يلتقون مع خصومهم الغربيين في اعتبار ان النماذج الغربية، البريطاني منها والفرنسي والهولندي والالماني، فاشلة كلها بلا استثناء، وان السياسات والاقتصاد كائنة ما كانت طبيعتها، لا تستطيع تذليل عداوة هي من جوهر الأمور وطبائعها.

والراهن ان التحليل الأول اكثر مباشرة وعلنية وحضوراً في الحيّز المكتوب، فيما تغلُب على التحليل الثاني المداورة والحضور في الحيّز الشفوي. بيد انهما يشتركان في أن كلاً منهما يضع يده على جزء من الحقيقة متغافلاً عن جزء آخر.

فالتحليل الاقتصادي، اليساري، يجد في حوزته الوقائع العديدة التي تكسبه مقوّمات الصلاح والجدوى. ذاك ان نسبة البطالة، مثلاً، بين الشبيبة المسلمة والمغاربية الأصول ضِعف النسبة الوطنية العامة. وما لا يرقى الشك اليه ان من يستمع الى وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، والى بذاءته العنصرية، أو من يتابع سلوكه الأمني الأحادي، لا سيما في الأيام الأولى من المجابهات، لا يعود بحاجة الى براهين جديدة على الانحطاط الديماغوجي للسياسة الفرنسية، والى الميل الجامع الى مخاطبة كتلة اليمين الأقصى واستمالتها في انتخابات 2007 الرئاسية.

غير ان هذا كله لا يلغي جوانب تتصل بالتاريخ الثقافي المباشر الذي يحيط بالهجرة المسلمة من البلدان المغاربية. وبالمعنى هذا، يجدر بنا ان نلاحظ ضعف شعبية الاندماج لدى المهاجرين المسلمين والعرب الذين يرون الى أنفسهم كتلاً متراصّة، لا أفراداً. ولئن انبعثت النظرة هذه من مقدمات ثقافية معيّنة، فقد زادها تأجّجاً في العقدين الماضيين صعود الإسلام الراديكالي، وتعميمه أفكاراً تؤكّد على"انحطاط" الغرب و"تمايزه الجوهري" عنّا. صحيح أن حركة الاعتراض الأخيرة تجنّبت تطوير لغة أيديولوجية تزخر بهذه المعاني الصريحة، واقتصرت على ردود الفعل اليدوية والفيزيائية، الا أن إحراق المدارس يملك من الدلالات الرمزية ما يقول الكثير. وفي السياق نفسه، يمكن ان نكتشف في سلوكات العنف وحرق السيارات، وغير ذلك من أعمال أقدمت عليها الشبيبة المهتاجة، دليلاً على شعور برّاني عميق تجاه مجتمع غريب كلياً. ذاك ان من ينتج السيارة لا يحرقها، بل يطالب بتحسين أجره عن مساهمته في انتاجها. بيد ان من يقدم على عمل كهذا يتحكم به شعوران متداخلان، احدهما انه يقع بالكامل خارج عملية انتاج السيارة، والثاني انه يقع، بالكامل ايضاً، خارج مجتمعات السيارات.

ومثلما يغيب التاريخ الثقافي عن التحليل الاقتصادي، يغيب العنصر التاريخي عن التحليل الثقافوي، لا سيما منه اشتطاطاته الأكثر جوهرانية التي تصل بأصحابها الى العنصرية (على ما فعل جان-ماري لوبن الذي طالب بـ"إرجاع" المهاجرين الى بلدانهم الأصلية، وامتدح أسبقيته في اكتشاف المشكلة المستعصية للهجرة). ذاك ان العلاقة التناحرية الراهنة لم تكن دائماً على النحو الذي هي عليه الآن. ولا يمكن، على الاطلاق، افتراض ان العداوة ستكون واحدة، لا فارق أتولّت الدولة رعاية الأحياء الفقيرة أم تخلّت عنها.

وغني عن القول إن البلدان الغنية، وفي عدادها فرنسا، في حاجة ماسّة الى العمالة المهاجرة الشابة، تستعيض بها عن الهرم الذي يصيب سكانها ويثقل على اقتصاداتها، تماماً كما كانت في حاجة الى تلك العمالة حين أغرت "أبناء المستعمرات" بالقدوم اليها من بلدانهم للمشاركة في تعمير أوروبا إبان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. والحاجة نفسها تصحّ في الطرف الآخر، إذ يحاول الخروج من الانسداد الاقتصادي لمعظم بلدانه، ناهيك عن تطلّب الحرية في ما خص القطاعات الأكثر تعلماً وتطلّباً من المهاجرين.

وقصارى القول، إن أياً من التحليلين لا يكفي لتوفير اجابة تلحظ ما جرى وما قد يجري، غداً او بعد غد، في فرنسا أو دولة اوروبية اخرى. والحال اننا نعيش، دفعة واحدة، أزمة الاسلام السياسي وأزمة الرأسمالية الغربية النيوليبرالية، فضلاً عن أزمة الهوية في عصر العولمة. ولا يفعل التحليل، حين يقتصر على تناول أزمة واحدة واستبعاد الأخريات، سوى التعبير عن قصور معرفي كالذي تناولنا أعلاه بعض عناوينه العريضة.