في وداع صلاح حزيّن

 

شأن الحياة ذاتها، فإن الموت يحدث كثيرا هذه الأيام، بالأحرى يحدث كثيرا في كل الأيام، غير أننا نسعى إلى تجاهله عن سابق إصرار وترصد، ولا نفسح حيزا للتأمل في بداهة وبساطة تلك الحقيقة الكونية التي تنطوي على قهر عظيم.

اضافة اعلان

ننسى كل ذلك في غمرة حراكنا الآلي الأبله والعبثي، الكفيل بتفريغ أرواحنا من هشاشة مضمونها الإنساني، نتوهم أن الموت بعيد عنا، وهو يحدث من دون هوادة وعلى مدار النبض، متكئين بانهماكات وانشغالات عابرة، ننخرط بها حتى الغياب، متواطئين ضد وعينا بحتمية المصير، نتحايل ونراوغ كي نكسب مزيدا من الوقت، غير أنه يسخر منا في كل مرة حين  يحسم جدل العيش بكلمة أخيرة منه.

وبحسب علم النفس فإن مراحل تلقي نبأ موت عزيز تبدأ بالصدمة، يليها الإنكار والرفض ثم يتبعه الغضب الشديد، ثم التسليم إلى أن تنتهي  بالاستقرار في حالة الحزن العميق الناجم عن إدراك ووعي لفكرة الفقد.

الموت صادم بالضرورة لأنه نقيض لكل ما نحب، وتتفاوت طرائق التعاطي معه بحسب الأفراد، غير أنه يظل التأكيد الوحيد على عجز البشرية المطلق.

وإزاء غياب نموذج إنساني من وزن الراحل صلاح حزين، الباحث والصحافي والمترجم والمثقف، والأهم من كل ذلك، الإنسان المحترم بالمعنى الحرفي للكلمة، فإن إحساسا بالخسارة الشخصية سيغمر كثيرين ممن التقوه، سواء على مستوى مهني أو شخصي، ومع معرفتنا المسبقة بإصابته بالسرطان والحالة المتقدمة التي آل إليها، غير أن الصدمة برحيله أصابت الجميع، ذلك أننا بصدد فقدان جسيم  لمثقف شامل، ورجل نبيل، دمث الخلق، مفرط التهذيب، حقيقي الزهد.

قدم صلاح  عبر عمر من الصعوبة منجزا ثقافيا ومعرفيا شديد الخصوصية، تنوع بين البحث والترجمة والعمل الصحافي الرصين فائق الحرفية.

أحبه الناس وكان صديقا للجميع وليس بالضرورة أن نكون من دائرة أصدقائه المقربين كي نحس بأن مقدار النزاهة والنبل والدماثة  قد اختل على نحو ما.

لا أسوق كلاما مجانيا متعلقا ببروتوكولات الرثاء التي تستوجب إبراز أفضل مزايا الراحلين، لأن حزيّن وبإجماع العارفين كان بحق نموذجا شديد الندرة من حيث الثقافة والسلوك الحضاري والنظافة والنقاء والشرف الرفيع في وسط  يعج بالخراب والتراجع الأخلاقي، والانتهازية والتلفيق والتهافت على مكاسب ضئيلة لا تغني عن عزة نفس وكرامة.

ظل صلاح وسيلة إيضاح مشرقة لفكرة المثقف الحقيقي المشتغل بصمت على مشروعه الثقافي والإنساني بإخلاص وحرفية، قادر دوما على التعالي والترفع والاستغناء.

كان ظهوره الوداعي الأخير في انتخابات رابطة الكتاب الأخيرة منذ شهرين، حدثا مفرحا لكل زملائه وأصدقائه، وأملا لم يبد كاذبا آنذاك على أن صحته إلى تحسن، ورغم الإنهاك الواضح على ملامحه، غير أنه كان سعيدا بالحفاوة والدفء الذي احتواه آنذاك، ظل يؤكد لكل السائلين أنه بخير، وأن كل الأمور تحت السيطرة، مبديا أقسى درجات الصبر والتحمل إزاء المأساة الكبرى التي هزت أركان حياته بابنه ومبعث زهوه..غسان ذلك الفتى الجميل الذي شابه أباه فما ظلم؛ متنوع الثقافة والاهتمام آخذا على عاتقه هم الحفاظ على الأصالة وإعلاء قيم الجمال منذ بدايات انهماكه في حقل الإعلام، حيث بدا نجمه في السطوع قبل أن يفضي به حادث سير مروع جرى منذ سنين ثلاث، إلى غيبوبة طال أمدها فحرقت قلب صلاح وكسرت ظهره، فيما ظلت روحه على شموخها الأصيل.

بكل الأسى نودع زميلا عزيزا ومثقفا نادر الحدوث ومعلما كبيرا، ونموذجا إنسانيا يستعصي على التكرار. كل العزاء للعائلة في رحيل نوارتها. أما مكانك يا صلاح حزيّن فلسوف يظل خاليا حتى وقت طويل.