قراءة سريعة في الحدث المأساويّ بلبنان

كيف نحسب ما حصل مؤخّراً في بيروت؟

لنقل، بادئ ذي بدء، إن الأحداث الدمويّة التي جدّت قابلة أن تُحتسب بأكثر من طريقة وعلى أكثر من مستوى، إلا أنها تلتقي جميعاً عند محطّة واحدة تتكامل فيها.

اضافة اعلان

فإقليميّاً وفي حسابات السياسة الواقعيّة والباردة، تُعدّ التطوّرات المذكورة مدّاً لشبكة النفوذ الإستراتيجيّ لإيران وسوريّة وتوسيعاً لها. وهو، من دون شكّ، ما استفاد من عوامل عدّة بينها الانشغال الأميركيّ بالانتخابات الرئاسيّة وتحوّل إدارة جورج بوش الحاليّة الى "بطّة عرجاء" عاجزة عن إنجاز ما هو أكثر من تصريف الأمور. وهذا معطوفاً على ارتباك قوى "الاعتدال العربيّ" ودفاعيّتها، وعلى الشلل الجزئيّ الذي تلحقه بالحكومة الاسرائيليّة "فضيحة" رئيسها إيهود أولمرت، فضلاً عن مناخ التردّي التالي على حرب تمّوز (يوليو) 2006، يترك يدي طهران ودمشق طليقتين وحدهما في منطقة المشرق العربيّ عموماً. وإذا كانت قد تبدّت الحدود الهزيلة لمؤتمر وزراء الخارجيّة العرب، لا يزال التكهّن سابقاً لأوانه في ما خصّ عودة المدمّرة الأميركيّة "كول" الى شواطئ البحر المتوسّط والنتائج التي قد تترتّب على ذلك.

ما يمكن قوله، حتى الآن على الأقلّ، ان بيروت، وربّما لبنان بأسره، قد أضيفت بالقوّة الى قطاع غزّة موسّعةً الرقعة الإيرانيّة – السوريّة على حساب "الاعتدال العربيّ" وحلفائه الدوليّين. ولربما جاز الافتراض أن المبادرة الى هذا الحسم في بيروت جاءت محكومة بالتوقيت العراقيّ، أي أن يصار الى التعويض بحسن نصر الله عمّا تمّت خسارته بمقتدى الصدر. لكن هذا المنطق يزيد في تظهير الصورة نفسها، إذ أن طهران التي خسرت موقعاً في البصرة لا تزال صداقتها مع حكومة بغداد تفوق صداقة هذه الأخيرة مع واشنطن. فمتى أضفنا غزّة وبيروت، تبيّن حجم الكسب الصافي.

من ناحية أخرى، يجوز القول، داخليّاً وسياسيّاً، إن ما حصل هو إرجاع الزمن اللبنانيّ الى عهد الوصاية السوريّة من دون الوجود السوريّ المباشر. فإذا كان المطروح على جدول أعمال "المعارضة" استكمال انتصاراتها العسكريّة بدخول مظفّر الى المناطق الشرقيّة والمسيحيّة، بعد افتعال مشاكل مع "القوّات اللبنانيّة"، غدا واضحاً الميل الى تغيير كامل للتركيبة السلطويّة وإطاحة النهج الذي أطلقته 14 آذار والانتخابات النيابيّة التي تلتها.

وفي معنى فكريّ وثقافيّ، إذا جاز القول، يُعتبر ما حصل انتصاراً للضاحية على المدينة: الضاحية بوصفها مسرح انهيار القيم الريفيّة من دون نشأة قيم مدينيّة. وهكذا تشهد بيروت دورة خلدونيّة أخرى يدفع ثمنها العمران والتعدّد والتجارة لصالح القيم الحاسمة والضيّقة الأفق. بيد أن ما هو أبعد من هذا أن المقاومة، ليس كواقع فحسب بل كفكرة أيضاً، تكشّفت عن مشروع مذهبيّ، روحه وزنوده متّجهة الى الداخل، على عكس ما زُعم ويُزعم. وفي السياق هذا تم استحضار أسوأ ما في تاريخنا من ارتداد صريح الى نزاع العصبيّات بما يستنهض عند كلّ طائفة وجماعة عصبيّتها الأشدّ تخلّفاً والأكثر عدوانيّةً، وربّما إرهاباً. ويُخشى أن يكون العراق المثال الأوحد الذي بات يلوح في سماء لبنان.

وغنيّ عن القول إن هذه الملامح والسمات جميعاً لا تحمل لنا إلا رسالة واحدة مفادها زحف الانحطاط بحماسة لا تنافسها إلا حماسة الفوضى في زحفها. فهل في العالم العربيّ والعالم من يتقدّم متصدّياً لهذين الانحطاط والفوضى؟

إن لبنان نموذج أغنى وأغلى من أن يُترك للذين وضعوا عليه أيديهم.