ما أشبه اليوم بالبارحة

ما أشبه اليوم بالبارحة، ما أشبه المتشددين الذين حاربوا المعارضة العام 1956 بالمتشددين الذين يرفضون الاقتراب من منطقة الوسط اليوم؛ وما أشبه القوميين العام 1956 بالحركة الإسلامية العام 2011؛ وما أشبه المعارضة التي ركضت وراء الأحلام الناصرية آنذاك بالمعارضة التي تخشى التراجع لمنطقة الوسط الآن، مع أن الوطن أصبح أفضل بعشرات المرات. اضافة اعلان
يقول القوميون إن خسارة الأردن لحرب العام 1967 كان من أسبابها انقلاب المتشددين على الديمقراطية والدفع لاعتقال رموز الأحزاب السياسية والنقابية، وإقالة أول حكومة برلمانية ديمقراطية منتخبة العام 1956 والتي شكلها المرحوم سليمان النابلسي، وجاءت من رحم مجلس ديمقراطي منتخب من الأحزاب الكبرى التي حصلت على أغلبية مقاعد المجلس النيابي، وفاز خلالها الحزب الوطني الاشتراكي الذي يرأسه النابلسي بثلاثة عشر مقعداً، وحصل فيها الإخوان المسلمون على أربعة مقاعد، وحصل حزب البعث العربي الاشتراكي على ثلاثة مقاعد، والشيوعيون على مقعدين، حتى إن حزب التحرير الإسلامي حصل على مقعدين أيضا.
تقول الحركة الإسلامية اليوم، ومعها بعض أحزاب المعارضة، وكذلك الاتجاهات الليبرالية أيضا، إن السبب الرئيس للخسائر الفادحة والمتلاحقة، شعبيا واقتصاديا وإقليميا، وللجمود الشديد الذي يعرقل الإصلاح الشامل، ويمنع الحصول على التعديلات الدستورية المطلوبة وعلى قانون انتخاب نسبي عادل، هو وجود تيارات متشددة، داخل الحكومة وخارجها، ترفض رفضا قاطعا التنازل أو التقدم إلى الأمام.
لم نسمع رأي المتشددين، لا البارحة ولا اليوم، فما يقولونه يترجم إلى تعنت حكومي، واضح البيان، ولا يحتاج إلى محلل يشرح مواقفهم، ويكفي أن نعلم أنهم مسيطرون، كما في الماضي. ومع أنها كانت تبدو في الماضي مجرد رد فعل للتهييج القومي، فإنها تبدو اليوم فعلا متجذرا عميقا، يصعب تفكيكه، ولكن يمكن رصده مثلا في رفض تحويل تعيين أمين عمان إلى انتخاب، والقياس على ذلك في كل شيء آخر.
النظام اليوم، بدون شك، أفضل بكثير، ويسعى لتقريب وجهات النظر، بالترغيب على طول الخط، ويسعى أن يتجنب الأردن السير في اتجاهين متعاكسين، ويحذر بشكل دائم أن تتحول الخسارة لتصبح شرخا لن يلتئم بسهولة، وحسب معلوماتي، يناقش المتشددين، ويحاورهم أيضا، أما الذين يظنون أن النظام ليس كذلك، ويتهموننا بالمجاملة دائما، فما هؤلاء إلا طابور خامس، يحملون معاولهم لوضع علامات تحدد للصدع طريقه للظهور ثم التوسع شيئا فشيئا، كما فعلوا البارحة.
الأغلبية الصامتة، وكل من يقف في منطقة الوسط تماما، لا يريدون هذا ولا ذاك، لا يريدون تشدد النخب التقليدية ولا يقبلون برفع سقف المطالب لدرجة يصعب إجابتها، ويدرك المواطن العادي البسيط أن "كل شيء يزيد عن حده ينقلب ضده"، ولكن الطرفين يمعنان في "الحد" الذي كان عليهما التوقف عنده، وسينقلب كل ذلك ضد الوطن وضد هذا المواطن البسيط، الذي يسعى لأن يحصل على العدل والمساواة فقط، وأن يحظى في ذات الوقت ببلد آمن مستقر لا تشيع فيه الفوضى والاضطراب، ليتمكن من أداء واجبه كاملا ويحصل فيه على حقوقه الطبيعية كاملة.
دفع الأردن، بسبب الشقاق بين الطرفين، ثمنا باهظا وتلقى ضربة موجعة، وذهب القوميون، آنذاك، إلى ما هو أبعد من "الحد" في تخوين الأردن وتشويهه سعيا لتحقيق حلم عبدالناصر الذي لم يتم، كما يفعلون اليوم مع حلم بشار الأسد تماما، وذهب المتشددون آنذاك، وعلى عكس حلم ورغبة الحسين، رحمه الله، الذي أصدر في العام 1965 قانون "عفا الله عما مضى"، ليفتح صفحة جديدة للجميع، ذهبوا لتصوير المعارضة أنها خائنة وضغطوا بشدة، لتعليق الحياة النيابية، واعتقال رموزها، ووأد الفرصة العظيمة التي أتيحت لهذه البلاد الطيبة، من جعل استقرارها السياسي، ونموها وتطورها، وتمكينها بالوحدة الوطنية أن تجابه الاحتلال، بقوة وعزم وتماسك، فاستغل العدو هذا الانقسام والتشرذم، وتقدم ليحتل الضفة الغربية ويضع أعلامه على أسوار القدس الشريف.

[email protected]