مصائر العائلة في المجتمعات المتقدّمة: بريطانيا نموذجا

جاءت الأرقام البريطانيّة الأخيرة عن المواليد الجدد تثير من الدهشة كثيرها. فقد تبيّن أن نصف الأطفال الذين وُلدوا العام الماضي إنما نجموا عن علاقات جنسيّة من دون مؤسسة الزواج ومن خارجها. وهي حقيقة باتت تضع مسألة العائلة، في المجتمعات الصناعيّة المتقدّمة جميعها، تحت مجهر النقاش والمساءلة.

اضافة اعلان

والأمر ليس "تفلّتاً أخلاقياً" أو "تحللاً قِيمياً" على ما يقول بعض "النقّاد" العرب والمسلمين، لا سيما منهم الأصوليون، للبلدان الغربية. فهناك مسيرة واضحة الأسباب يمكن رصدها من دون اللجوء الى أي تحليل خرافي أو تآمري.

فقد شهدت ستينيات القرن الماضي الانفصال الأول بين العائلة والرغبة، فسقط التحريم المسيحي التقليدي للجنس ما لم يكن مرتبطاً حصراً بالإنجاب، وشرعت تحلّ محله النظرة المتعوية التي تربط الجنس باللذة والمتعة أولاً وأساساً. وفي أواخر السبعينيات، مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت بريطانيا بالغةً ذروتها في شتاء 1979 الذي سُمّي"شتاء الغضب"، موصولاً مارغريت تاتشر الى رئاسة الحكومة للمرة الأولى، تعاظمت نسبة الممتنعين عن الزواج تجنباً للأكلاف المالية المترتّبة عليه، لا سيما استئجار المنزل المشترك وتأثيثه.

لكن التسعينيات، خصوصاً أواخرها، جاءت تعلن الانفصال الثاني الكبير، وهو، هذه المرة، بين العائلة والانجاب.

والحال ان التحولات التي تعرّضت لها العائلة البريطانية ما لبثت أن عكست ذاتها على الأسرة المالكة نفسها. فهذا الحصن التقليدي للمحافظة والأخلاق القديمة القويمة، قدّم في شخص ديانا، زوجة الأمير تشارلز الراحلة، صورة عن التغيرات الضخمة التي ألمّت بالعائلة وبالوظائف المعهودة لأفرادها. وما بين تجربة الأميرة المذكورة التي اكتسبت هالة نجوميّة غير مسبوقة و"الانشقاق" الأخير لتشارلز، قبل أيام، كُتبت فصول طويلة انتهت الى كسر المثال المعروف عن أسرة متماسكة متجانسة، أسرة يحب أفرادها بعضهم مثلما أحبّت الملكة فيكتوريا، في القرن التاسع عشر، زوجها وفقيدها ألبرت.

وكما الأسرة المالكة كذلك المناسبات الدينية. ذاك أن عيد الميلاد، وهو تقليديا حدث عائليّ بامتياز، تغير هو الآخر. فبدل اللقاء المألوف لعائلات الأبناء والبنات في بيت الجدّ والجدّة، انعكست نسب الطلاق الجديدة على منطق الاجتماع العائلي وأشكاله. فقد بتنا نرى الابنة المطلقة تصطحب معها الى بيت أهلها زوجاً جديداً، أو مجرد صديق لا تربطها به صلة زواج، قد تقترن به وقد لا تفعل.

وهي جميعاً نتاج مديد ومتراكم لتطورات عصفت تباعاً ببريطانيا وبالبلدان التي تشبهها في نمط التطور الاقتصادي والقيمي ووتائره. ذاك أن نزول المرأة الكثيف الى سوق العمل، واهتمامها بتطوّرها المهني ومستقبلها، فضلاً عن احتمال ان يكون المكتب او المؤسسة او المشغل بعيداً عن مكان الإقامة، أسقطت فكرة الزوج المُعيل، بل، أكثر من هذا، دفعت المرأة الى خفض موقع الزواج والأسرة في جدول اهتماماتها.

ترافق ذلك، بالنسبة الى الرجل كما الى المرأة، مع صعود الوعي الفردي (أو الفرداني، كما يقول البعض). فالغربي المتوسط يريد أن "يعيش" و"يستمتع" بحياته وبالمال الذي يجنيه، وليس فقط بالعائلة والأولاد "ممن أضحّي بنفسي فداهم"، كما يقول عندنا من يرون أن وظيفتهم الوحيدة تربية الأبناء غاضّين النظر عن حيواتهم هم.

وكان، ولا يزال، من نتائج صعود الفردية (وهي ليست الأنانية كما قد يُظنّ)، صعود الذوق والمزاج، وهما معطيان متغيّران يصعب ضبطهما في القالب الصارم للعائلة والبيت وفي الالتزام النهائي والمطلق الذي يستدعيهما.

الى ذلك، فعل توسّع الخدمات فعله الحاسم والأساسي. ذاك أن عديد الوظائف التي كان يؤمّنها البيت العائلي تقليدياً، باتت مؤمّنة خارج البيت بأسعار زهيدة نسبياً. فهناك مطاعم رخيصة في مراكز العمل كما في الشارع، والشيء نفسه يصحّ في وسائل تنظيف الثياب(المصابغ) وغيرها من حاجات مُلحّة.

وبدورها، آلت الحريات الجنسيّة التي شرع الأوروبيون والأميركيون يحظون بها منذ الستينيات وثورتها، الى تعزيز فكّ الارتباط القديم بين الأسرة والجنس. وإذ انكسر الطابع السحري والقداسي عن المؤسسة العائلية، لم يعد الطلاق سبباً للعداء والقطيعة بين زوجين سابقين. فهما قد يتحولان، بعد مرورهما في"تجربة فاشلة"، الى صديقين، أو أنهما، على الأقل، قد يقيمان نوعاً من التنسيق الوظيفي في ما خص تنظيم الرعاية للأطفال المشتركين بينهما، فلا يعاني الأخيرون أي فقدان أو تخلٍّ عاطفيين.

وبالطبع، توازت المسيرة هذه مع نشأة منظومة أخلاقية جديدة، ذات مصادر زمنية، راحت تحل محل المنظومة القديمة التي صنعتها الكنيسة وبلورتها. وفي المنظومة البديل هذه اكتسبت حريّة الفرد المسؤولة، التي لا تتجاوز على حريّات الآخرين كما تراعي القانون وعموم مصلحة المجتمع، موقعاً لم يكن لها في السابق. كذلك، تأدّى عن الهويات الجنسية المغايرة للمألوف العائلي، وعن الاعتراف القانوني بها، توسيع نطاق الممارسات وأنماطها في الحقل العاطفي الأوسع.

وقصارى القول إنها وجهة شقّت طريقها على مدى عقود، منجزةً هدفاً بعد آخر، وصولاً الى الحقيقة الراهنة التي تدلّ الأرقام المذكورة عليها. أما المسألة الأبعد التي تثيرها الأرقام تلك، فإن العائلة ليست ملازماً حتمياً للحياة الانسانية منذ كانت الخليقة، لا تزول الا بزوال الحياة نفسها. فما يتبيّن، في المقابل، وهو ما تعزّزه دراسات لا حصر لها للمؤرخين والأنثروبولوجيين، أن المؤسسة تلك نتاج فعل تاريخي حكمته ظروف بعينها، وأن اضمحلالها، بالتالي، يمكن أن يكون نتاج فعل تاريخي مختلف مصحوب بظروف أخرى.

كاتب لبناني مقيم في لندن