جوهر التناقض الاقتصادي

المتفحص للأرقام الصادرة عن الجسم الصناعي في البلاد، للسنوات الثلاث الماضية، سينتهي إلى نتيجة تتمثل في نزيف خسائر كبير ومفتوح لا يمكن تحمله من دون إجراءات حكومية عاجلة.اضافة اعلان
إذ تكشف بيانات غرفة صناعة عمان أن 980 منشأة صناعية أغلقت أبوابها في العام 2013، وكانت تشغل 6600 عامل وعاملة. وارتفع العدد في العام 2014، من خلال عدم تجديد الاشتراك، إلى أكثر من 1300 منشأة، كانت تشغل 7700 عامل وعاملة. وتواصل الاتفاع في العام الماضي؛ إذ أغلقت نحو 2300 منشأة، كانت تؤوي 11 ألف عائلة. ومن المرتقب استمرار تصاعد العدد خلال العام الحالي، فهو ليس أحسن من سابقيه.
باحتساب نزيف السنوات الأخيرة، فإن 25 ألف عائلة دفعت ثمن هذه الإغلاقات، وعددا لا يستهان به من صغار المستثمرين وكبارهم فقدوا استثماراتهم، وبعضهم ملاحق قضائيا بسبب التزامات مالية ثقيلة.
في دلالات هذا النزيف، تبرز على السطح توجهات لرفع الحد الأدنى للأجور قريبا إلى 240 دينار شهرياً، في حين تسعى نقابات العمال إلى رفع الحد الأدنى إلى 300 دينار. وبين هذا وذاك، تظهر أسئلة مشروعة عن مستوى الحصافة الاقتصادية للحكومة، وطريقة حل الأزمات وتقليص حجم التعثر إلى أدنى مستوياته لدى المستثمر والعامل على حد سواء. منشآت تغلق، وأجور العمال تزيد أو هكذا التوجه، فكيف سيستقيم الأمر؟ من أين سيتسنى تغطية هذه الزيادات إن كان القطاعان العام والخاص غارقين في ظروف اقتصادية خانقة خلال هذه الفترة الصعبة؟ ورغم أن رواتب العاملين، في حقيقتها، لا تسمن ولا تغني من جوع، فإن زيادة كهذه هي أشبه بالقفز في الهواء. وإذا سلمنا بما تقوله الحكومة، بأن الأسر التي يقل دخل الفرد فيها عن 600 دينار هي أسر تقف عند خط الفقر، فإن حقيقة أخرى تؤكد أن 86 % من الأردنيين يتقاضون رواتب دون 500 دينار، ما يعني أن النسبة الأكبر من العمال والعاملات هم تحت خط الفقر وتداعياته بالأساس، فكيف سينتقل الوضع في الآونة المقبلة مع إغلاق عدد من المنشآت؟
في المسعى الأبعد، يحاول برنامج إعادة هيكلة الرواتب والأجور والعلاوات رفع معدلات الأجور، وبما يوصل إلى تحسين رواتب موظفي الخدمة المدنية، وأيضا رفع سوية الرواتب التقاعدية حتى لو كان ذلك من حساب فاتورة المؤسسات المستقلة التي تطرفت كثيرا في رواتب العاملين لديها مقارنة بمستوى الرواتب لموظفي الخدمة المدنية.
أساس التناقض هنا أن الحكومة تقدم رواتب لأعداد كبيرة من الموظفين؛ فهي تمنح ربع مليون موظف على الأقل رواتب شهرية. وفي الوقت الذي لم يفلح القطاعان العام والخاص في ترشيق المؤسسات أو تقليص عدد الموظفين لصالح معيار الكفاءة، فإن خططا رسمية تذهب إلى تقريب راتب موظف الحكومة من راتب الموظف في القطاع الخاص.
المسألة تراوح اليوم بين التجريب والخطأ، وأحيانا بين الغرق والحلول التي تجعلنا في وسط مستنقع مزعج. لكن معالجة أسباب التشوه الاقتصادي أولى من ملاحقة الأعراض. فالحكومة، ومعها القطاع الخاص عموما، لم يقدما شيئا وهما يراقبان إغلاقات الجسم الصناعي. والحكومة تحديدا كرست تورم القطاع العام وأضعفت إنتاجيته، بينما تتباكى اليوم على ضعف الرواتب والأجور فيه؛ فأي تناقض هذا؟