نهب بالجملة

تغيب العدالة فتعم الفوضى، ومع تغلغل الفساد ستزيد حتما درجات الاحتقان. والمتابع للحالة العربية سيصطدم بواقع سريالي للفساد لا نشبه فيه أحدا. والمخجل أن منسوب الجشع لدى كثير ممن يتسنمون المناصب العليا كبير، ويصعب قياسه.اضافة اعلان
رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي قائد الجيش الجزائري السابق الجنرال محمد العماري. وتفيد الأخبار أن العماري يمتلك 26 فندقا ومطعما وحانة للخمر في فرنسا فقط. وتصل ثروة الرجل إلى 25 مليار دولار، بحيث يبدو أغرب ما في المعلومات أن أملاكه تتطلب تعاونا أوروبيا كبيرا كي يتسنى حصرها، فهي ممتدة ومتنوعة وتشمل كل أرجاء أوروبا!
تتكاثر استثمارات وأملاك رجل العسكر الأول في مدن بعيدة عن بلاده، بينما يلجأ إلى الدولة ذاتها التي استعمرت الجزائر عشرات الآلاف من شباب "بلد المليون شهيد"، وكلهم إحباط، بعد أن فقدوا أي أمل في العيش الكريم بدولتهم!
ذاك في أقصى غرب العروبة، أما في شرقها فالحالة أكثر بؤسا وخرابا. إذ أحيل نحو 1891 مسؤولا ومتهما عراقيا إلى القضاء -بينهم وزراء- الخميس الماضي بتهم فساد. وتفيد التسريبات أن الفساد أمسى مؤسسة في هذا البلد الجريح. ومن هول الفساد هناك روى لي صديق عراقي أن مديرا للبلدية عين في إحدى المحافظات قبل ثلاثة أشهر، وحال تسلمه منصبه جاء إليه المحافظ ليدفعه إلى التوقيع على مخططات مشروع ضخم في المحافظة بكلفة 300 مليون دولار. وعندما سأله مدير البلدية عن تنفيذ المشروع والجدول الزمني، قال له المحافظ إن المشروع لن يرى النور وسيبقى على الورق، لكن أمواله ستوزع على كل الموقعين، وشدد عليه: وقع فقط وستأتيك حصتك.
والمخجل أكثر أن العراق الذي ينتج 4.7 مليون برميل نفط يوميا، يعجز عن توفير الكهرباء لأبنائه، فضلا عن خراب البنية التحتية وتفشي الجوع.
وبين الجزائر والعراق تتقدم مصر الصفوف لا في التنمية وحقوق العمال، بل في الفساد ونهب الثروات أيضا. فرئيسها المخلوع حسني مبارك يمتلك ثروة في الولايات المتحدة وحدها بما يفوق 31 مليار دولار، تأتي على شكل عقارات في نيويورك وكاليفورنيا وأرصدة في بنوك كبرى. هذا في الوقت الذي يلهث فيه شباب مصر من أجل فرصة عمل متواضعة جدا في محيطهم العربي والآسيوي والأفريقي، تسد رمق الأسر التي تنتظرهم في أطراف مصر وصعيدها. ومرة أخرى، ليس مهما أن يجد هؤلاء الشباب فرصة للعيش، أو أن تنافس بلادهم دولا حققت إنجازات، مثل تركيا وماليزيا وأندونيسيا وكوريا الجنوبية، المهم أن يستبيح "أبطال عبورها" المليارات من المال العام. وبعد خمس سنوات على خلع مبارك، تبدو مصر اليوم بلا قوانين رادعة للفساد، بكلفة فساد سنوية تتجاوز 200 مليار جنيه.
فاتورة الفساد المسددة عربيا في كل عام تفوق تريليون دولار، وفقا للمنظمة العربية لمكافحة الفساد. ويبدو أن مزيدا من الشباب الجزائري سيحترق، وأكثر منهم من العراقيين سيضيعون في الشتات، بينما سيواصل الشباب المصري عذاباته كقوة عمل رخيصة بعيدا عن بلاده التي كانت يوما "أم الدنيا". وكل هذا سيتم مع تورم أرصدة جنرالات ورؤساء في البنوك الأجنبية، واستمرار ماكينة الفساد في عملها، وهي الآلة الوحيدة التي تعمل في العالم العربي. ويأتيك بعد هذا كله من يتساءل إن كان ربيع الاحتجاجات سيندلع مرة أخرى في تلك البلدان.