العودة إلى عبادة الأوثان!

من أكثر ضحايا التحولات التي يشهدها العالم العربي، وأقاليم أخرى في العالم الإسلامي، هو التراث الثقافي والتاريخي. والمفجع أن الحركات الإسلامية التي يفترض أن تكون الأكثر احتراما لهذا التراث، إنما هي الأكثر تورطا في حرقه وتدميره، نتيجة أعمال العنف، أو نتيجة معتقدات ومواقف دينية متشددة برزت على شكل فتاوى دينية متطرفة، تربط الآثار بعبادة الأوثان. ولعل ما حدث قبل أيام في إقليم تمبكتو في مالي يقدم مثالا مؤلما على هذا الاستهداف، إلى جانب ما تتعرض له الآثار والمتاحف السورية يوميا. وما يضيف المزيد من السخط هو أن التخريب والتدمير يمران ببرود بدون إدانة حقيقية وصارمة، وبدون أن يكتشف الناس من هم الذين يعودون بالفعل إلى عصور عبادة الأوثان.اضافة اعلان
تواجه الآثار والمتاحف السورية اليوم تحديا كبيرا في حمايتها من العنف المتبادل، وتحديدا من الغارات الجوية والقذائف. وفي أحد التقارير التي صدرت مؤخرا، تم رصد تخريب 12 متحفا للتراث الثقافي، من أصل 38 متحفا تجمع تراث أجيال من الحضارات الإنسانية التي شهدتها الأرض السورية، والتي تعد مستودعا للتراث في الشرق القديم. ومن المتاحف التي تعرضت للتخريب، متحف حمص الوطني، ومتحف حماة، ومتحف دير الزور. كما شهدت متاحف أخرى سرقة قطع أثرية، وتهريب تماثيل نفيسة. ويتحمل المسؤولية عن ذلك الجيش النظامي والجيش الحر معا.
بعد ما تعرضت له الآثار العراقية من فواجع وتخريب ونهب؛ إذ ماتزال مئات القطع الأثرية العراقية تعرض في المزادات وفي الأسواق السوداء، تعرضت الآثار المصرية، وتحديدا المتحف الوطني، للتخريب والسرقة، إضافة إلى حرق دار المخطوطات. بينما غابت المعلومات عن حجم الفاجعة التي تعرضت لها الآثار الليبية التي عانت من الإهمال على مدى عقود.
المصيبة الجديدة في شمال مالي هي جريمة ثقافية كبرى، كان حريا أن تكون بداية لمحاكمة ثقافية قاسية لتيارات الإسلام السياسي المتطرفة. وعلى الرغم من إنقاذ جزء كبير من المخطوطات هناك، إلا أن حجم الأضرار، واختفاء العديد من المخطوطات، وضعف الإدانة العربية والإسلامية، تنذر بالعودة إلى الأوثان الثقافية، والتطبيع مع هذا التدمير والحرق.
تمبكتو الحزينة هذه الأيام، كانت عاصمة الحواضر العربية والإسلامية في شمال غرب أفريقيا، ووصلت في القرن السادس عشر على يد سلاطينها (الأساكي) إلى أوج العطاء الحضاري. وعلينا تصور أنه كان يفد إلى تلك المدينة 25 ألف طالب علم في كل عام، من مختلف أنحاء أفريقيا؛ يفدون إلى مدارسها التي بلغ عددها 180 مدرسة، جميعها نقلت الثقافة العربية والإسلامية المنفتحة، وعملت مع مساجدها -التي أصبحت معاهد عليا بمستوى القيروان والأزهر- على ازدهار حضاري في فترة غفوة كان يعيشها العالم الإسلامي. ومن ثم، فقد انتشرت المكتبات، واهتمت النخبة بجمع المخطوطات والاحتفاظ بها. ويعود الفضل في ذلك الازدهار إلى دور التجار العرب في تنمية الحركة الثقافية.
علينا أيضا تصور حجم الإنفاق السخي على الثقافة، وعلى جمع المخطوطات الإسلامية من كافة أنحاء العالم الإسلامي في ذلك الوقت، بالعودة إلى عهد السلطان "منسا موسى" في رحلته الذهبية للحج، والتي لفتت أنظار العالم إلى بلاده، وأدت إلى انخفاض أسعار الذهب في العالم من كثرة ما أنفق من سبائك ذهبية في تشييد المساجد والمدارس وشراء المخطوطات. وفي عهد سلطان آخر، دُفع في قاموس المحيط 80 مثقالا من الذهب. ومعظم المخطوطات التي هُرّبت وأُخرجت من الأندلس وغرناطة وجدت طريقها إلى تمبكتو.
اليوم، يضم مركز المخطوطات في تمبكتو 30 ألف مخطوطة من نفائس الحضارة الإسلامية والإنسانية. وكل هذا الغنى الحضاري، والمنجم الثقافي، كادا يدمران ويحرقان بعبث سخيف تحت اسم الدين، ورضوخاً لذعر فتاوى تعيدنا إلى عبادة الأوثان بالفعل!

[email protected]