إعلام يُنكر الواقع؟!

في كل مكان في عالَم اليوم تقريباً، يجد الأفراد أنفسهم مشوشين أمام فهم ما يدور حولهم ويصنع كل هذا التوتر. ومن البديهي أن تكون العلاقة طردية بين عدد المشوشين ومنسوب التشوش الجمعي للبلد المعني وصحته. ولعل آخر ما ينبغي أن تريده أي سلطة هو حكم شعوب لا تعرف ولا تفهم ما يجري. لكنّ سياسة التجهيل –أو السماح بمعرفة مقننة وموجهة جداً- أصبحت عوامل مشتركة لدى السلطات في شرق العالم وغربه على ما يبدو. ولعل هذا بالتحديد سبب أساسي لتفاقم الصراعات والعدوانية وإساءة فهم الآخر.اضافة اعلان
توقع المتابعون أن يوفر "الإعلام البديل" الذي تتيحه شبكة الإنترنت وما عليها من المدونات والمواقع ووسائل التواصل الاجتماعي، وسيلة لتجاوز الرقابة والتقنين، وتزويد الناس بخيارات لا نهائية من مصادر المعلومات. لكن هذه الوسائل سرعان ما أصبحت إما خاضعة لرقابة شديدة تصل إلى قطع الشبكة أو إغلاق تطبيقات التواصل؛ أو أنها أصبحت أمكنة خصبة لبث الأخبار الزائفة، والتحريض العدواني، والدعايات الأيديولوجية المتعصبة وخطاب الكراهية.
بذلك، لم يتوفر بديل في الأساس عن الإعلام الرصين الملتزم بتوخي الحقيقة ولا شيء غيرها. ويُفترض أن يستطيع هذا الإعلام إدامة نفسه، نوعيا وماليا، باعتباره المصدر الموثوق الذي يجب أن يرتاده الباحث عن الحقيقة والمعرفة. ويقتضي المنطق أن يدفع الراغب ثمن هذه الخدمة برحابة صدر باعتبارها تستحق كلفتها.
لكن هذا النوع الضروري من الإعلام يغلب أن يواجه محددات خارجة عنه، والتي تُفقدُه أهليته وسماته التي يمكن أن تجعله مرغوبا. وأخطر هذه المحددات تقييد ما يمكن أن ينشر من معلومات وأخبار وتحليلات ومكتشفات تخدم فكرة التنوير – لمختلف الذرائع. وسوف تؤدي كثرة المحظورات في الإعلام إلى جعله مسطحا ومواربا وجبانا وغير مقنع ولا مفيد. وسيكون من الطبيعي بعد ذلك أن تصبح بضاعته كاسدة وطلابه قليلين، بحيث يفلِس ويزداد منتجه ضعفا.
من المفارقات أن يكون ما يوصف بـ"الإعلام الرسمي" أكثر من غيره معاناة من فرط الحذر والرقابة غير المبررين في كثير من الأحيان، إلى درجة حجب معظم أنواع المعلومات. وإذا كان من المفترض أن يكون هذا الإعلام وسيلة السلطات لإسماع صوتها والتأثير في الرأي العام، فكيف يمكنها ذلك إذا انصرف الجمهور عن هذه المنافد بسبب الشك في مصداقيتها وجدارتها وجودة ما تعرضه؟ إنهم كأنما يقولون للناس: "اذهب وابحث عن المعرفة والحقيقة في مكان آخر".
في كثير من الأحيان، يحجب الإعلاميون معلومات يعرفون أنها معروفة، وأن الناس يذهبون للمعرفة عنها إلى أماكن أخرى أقل التزاما بالموضوعية، والتي يمكن أن تمرر معها الكثير من القصص الصفراء والعناوين المضللة. وقد لا تكون المعلومة المحجوبة تحقيقا استقصائيا يكشف فسادا وشخصيات، أو شيئا يضر حقا بالأمن الوطني، أو شيئا ينتهك المحظورات الأخلاقية والعقائدية. قد تكون المعلومة تحليلا واقعيا منطقيا يربط معا مجموعة من الظواهر، لكن "عيبه" أنه يسمي الأشياء المعروفة جدا بأسمائها. وفي بعض الأحيان لا يكفي مراعاة "الحساسيات الداخلية" فضفاضة التعريف، وإنما الحساسيات الخارجية إلى حد السكوت عن وصف ما يجري في الإقليم –وربما خارجه- من أجل العلاقات بالأشقاء، والأصدقاء –والأعداء أحيانا.
يعبر هذا التوجه عن إنكار للواقع، حيث يسود اعتقاد بأن تجنب ذكر الحقائق غير المريحة يجعلها غير موجودة، -ولو أنها تحت الشمس. وهو في الأساس "عمل غير عقلاني يحول دون التحقق من خبرة تاريخية أو حدث تاريخي، عندما يرفض المرء من الأساس القبول بواقع قابل للتحقق منه تجريبيا". ولا تليق هذه الصفة بمراكز صنع القرار، التي يجب أن تستخدم الإعلام كوسيلة لتوليد المعلومات الراجعة، وكمصدر يزودها بالقراءات والاقتراحات والبدائل. كما أن بالوسع إدارة حوار متنور وفتح قناة تواصل من خلال منصات الإعلام الرصينة.
لا ينبغي أن يكون أهم تدريب للصحفي هو تعليمه مراقبة نفسه بصرامة لضمان نشر عمله، وكيفية تجنب "القضايا الحساسة" التي تلامس كل شيء تقريباً. وسيكون من شروط أي نهوض أخلاقي ومعرفي وتقدمي ابتكار إعلام ينتج ما يقلل التشوش ويفتح نوافذ شفافة على أساس إشاعة النور في كل الزوايا، وإضاءة معالم الطريق.