البتراء مضاءة بالشمس

افتُتحت الأسبوع الماضي محطة لتوليد الطاقة الكهربائية باستخدام الشمس في البتراء، بمنحة يابانية. وستكفي هذه المحطة كافة فعاليات المحمية الأثرية حاجتها للكهرباء، وتخلص المدينة الأثرية الأكثر حساسية والأكثر عرضة للتهديد من مشكلة قديمة مستعصية، تتمثل في استخدام مولدات الطاقة الكهربائية التقليدية المشغلة بالوقود. والأكثر حميمية أن هذا المشروع الحيوي سيعيد للبتراء الهدوء، ويخلصها مظاهر عدة للتلوث.اضافة اعلان
ويكفي أن نتذكر حجم تأثير أصوات المولدات الكهربائية ليلا، وما تحدثه من اهتزازات ضخمة، وما تخلفه من عوادم تنثر على وجه الصخر الهش. كما يكفي أن نتذكر عشرات الكهوف الأثرية التي تحولت إلى مقابر للمولدات، وحفر للعوادم منذ سنوات طويلة، ما جعل اليونسكو تنبه، قبل عامين، إلى حجم الأخطار التي تتعرض لها المدينة الأثرية، وهي في الحقيقة أخطار وأخطاء متراكمة منذ ثلاثة عقود.
المفارقة أن هذا المشروع المهم الذي أنجز بهدوء، هو أول مشروع للطاقة الشمسية في الأردن بهذا الحجم ينجز على الأرض بالفعل، ويكفي عمليا لإضاءة مرافق المحمية الأثرية من متاحف ومطاعم وعيادات، وربما مستقبلا الطريق الخلفية المزمع إنشاؤها بطول حوالي خمسة كيلومترات، أي ما يوازي إضاءة 450 منزلا، بينما نسمع منذ خمس سنوات عن مشاريع الطاقة الشمسية بمئات الملايين، وعد بها الناس في معان الطفيلة والمفرق، وحصلت شركات عدة على تمويل لها محلي ودولي وضمانات وتسهيلات اقتصادية، ولكنها لم تر النور. ما يعني عمليا أن البلاد من السهولة أن تقاد إلى ثورة حقيقية في توطين مزيج من مصادر الطاقة البديلة والمتجددة، ومن السهولة أن يصبح الأردن نموذجا لازدهار الطاقة المتجددة غير القابلة للنضوب وسط إقليم متخم بالطاقة التقليدية التي هي إلى زوال. كل ذلك إذا ما توفرت الإرادة السياسية والكفاءة في إدارة الموارد، وليس الفساد الذي يتحدث عنه الناس ويشار إليه رؤيا العين، ويقال إنه ضرب مشاريع الطاقة المتجددة ويحارب حق الأردن في امتلاك بدائل أخرى، وعطل قانون الطاقة المتجددة سنوات في البرلمان، ويعطل حاليا تفعيله وإصدار تعليمات تنفيذية خاصة به. وهو الأمر الذي يعيدنا لأن نتذكر الحملات الإعلامية التي كانت تتحدث قبل أزمة الغاز المصري وقبل الانكشاف المخجل لوضع الطاقة في الأردن، عن استثمارات تصل إلى مليار ونصف المليار دينار في مجال الطاقة المتجددة، ونتساءل اليوم وفي هذه الظروف الحرجة: أين ذهبت تلك المشاريع؟
الموارد المتوفرة للطاقة المتجددة لا تعني تعميم استخدام السخانات الشمسية على سقوف المنازل، ولا تشغيل مطعم صغير في إحدى الجامعات باستخدام الطاقة الشمسية، بل أن يتم تشغيل جامعات بكافة مرافقها، وإضاءة مدن بأكملها، بالطاقة الشمسية، وأن تشغل مجمعات ومدن صناعية. وما فعله اليابانيون في البتراء قد يكون درسا لافتا للانتباه.
نحتاج في هذا الوقت إلى إعادة اكتشاف قيمة البتراء في الاقتصاد الوطني. وشرط ذلك الأول والأخير هو حماية الموقع الأثري الذي عانى طوال ثلاثة عقود من الإهمال والتعدي، ووصل أن تباع آثار البتراء في المزادات العلنية قبل سنوات.
لنتصور البتراء برؤية تنموية اقتصادية جديدة، تعتمد على المدخلات العلمية والمهنية المحترفة بعيداً عن الارتجال وشغل الهواة؛ لنتصور البتراء تطلق هوية سياحية جديدة قادرة على تسويق الأردن بأكمله، وجعله موئلا ونقطة الجذب والمنطلق لسياحة الشرق الأوسط؛ لنتصور البتراء روح الشرق الحضارية الجديدة بالتنوع والتواصل الثقافي والحضاري، ومقصداً سنوياً لمئات المؤتمرات والملتقيات الثقافية والعلمية؛ لنتصور البتراء نقطة الارتكاز لإعادة التخطيط التنموي لإقليم ممتد من ضانا في محافظة الطفيلة إلى وادي رم في محافظة العقبة، يشمل مزيجاً تنمويا تكامليا من المتنزهات الآثارية والثقافية إلى المحميات ومواقع تراث الطبيعة إلى أنماط الحياة الثقافية المتعددة؛ ولنتصور البتراء بيئة جديدة للتعليم السياحي المعاصر، بعد أن فشلت النماذج المطروحة حالياً.
يمكن أن نتصور المزيد من الفرص التنموية والاقتصادية التي يمكن أن توفرها البتراء، والمؤهلة لإحداث فروق كبيرة، وجميعها في متناول اليد، والتي تجعل هذه المدينة أكبر من قصة السياحة التقليدية.

[email protected]