تلك أمة قد خلت

باستثناء أنهما أشقاء، يصعب إيجاد صلة بين رئيسي الوزراء مضر وعدنان بدران. فمن يستمع إليهما يجد أن الفوارق تتعدى الخلفية الفكرية والسياسية والوظيفية، إلى الطباع الشخصية. الأهم من ذلك، أن زهاء عقد ونصف يفصل بين آخر حكومة شكلها مضر بدران، وأول حكومة يشكلها عدنان بدران، وخلال ذلك تبدلت الدنيا، وكأنك تعيش على أرض غير الأرض التي عرفناها،  وغدا الجميع يشعر بغربة وكأنه زائر لا مستقر! والأردن جزء من هذه الأرض التي زلزلت زلزالها، ولا يزال المشتغلون بالفكر والسياسة والاقتصاد يلحون بالسؤال دون إجابة: ما لها؟

اضافة اعلان

الحديث المنفتح للرئيس في لقائه مع الصحافيين والكتاب، يغري بالمقارنة بين حكومتين يفصل بينهما عقد ونصف، مع أن الرئيس غاص في المقارنات إلى زمن كان يحمل فيه دلاء الماء إلى بيت أهله في جرش.

فحكومة مضر بدران الأخيرة جاءت في وقت ارتفعت فيه ثقة الناس بالحكومة وبمجلس النواب، ولم تكن تلك الثقة قد تآكلت إلى المنحدر الذي كشف عنه استطلاع مركز الدراسات الإستراتيجية. كانت جلسة الثقة امتحانا سياسيا شاقا، من حيث الشكل والمضمون، والشرفات ضاقت بالجمهور، الذي تقاطر من مناطق المملكة كافة لمتابعة الجلسة، بما يمكن تشبيهها بمباراة بين فريقين قويين يصعب التنبؤ لمن سيكون الفوز فيها. كان أصعب شرط من شروط الإخوان المسلمين التعهد بعدم التنازل عن "شبر" من أرض فلسطين، فاستجاب الرئيس - الذي ساهمت بلاده في القرار 242، ووافقت عليه - بأنه لن يتخلى عن "ذرة " من تراب فلسطين. وعندما تحدث ذوقان الهنداوي  بأرقام دقيقة عن المديونية، رد عليه بدران بأرقام أدق. لم يكن السجال حول نصيب كل حارة من الموازنة، بل كان حديثاً سياسياً على مستوى البلاد. والانقسام لم يكن جهويا أو إقليميا، وإنما كان سياسيا. يومها، ألف عبدالرؤوف الروابدة  قصيدة نبطية في مدح نواب الإخوان! وللعلم، فقد كان وقتها نائب بوزن عبد الرؤوف الروابدة وزيراً للأشغال، ونائب بوزن عبدالكريم الكباريتي وزيراً للسياحة . 

كان سليمان عرار، رحمه الله، يتدخل بوصفه رئيساً للمجلس، للحد من تصفيق النظارة. وعندما منح يوسف العظم، أمد الله في عمره، الثقة لأول مرة في حياته بررها: "حفاظا على وحدة الصف الإسلامي"،  فداعبه عرار، الذي تلاه في الدور: "وأنا أمنح الثقة حفاظا على وحدة الصف المعاني". فلم تكن الجغرافيا أكثر من طرفة تستحق المداعبة، أما اليوم فإن "الجغرافيا" كانت أول لغم ينفجر في وجه حكومة الدكتور عدنان بدران!

العظم وعرار لم يكونا بعيدين عن معان، بل يكادان يعرفان أبناء المدينة واحدا واحدا، وخدما أبناء محافظتيهما بإخلاص وتفان، لكنهما كانا نائبين لوطن لا لمحافظة أو عشيرة. وعلى الرغم من اختلافهما سياسيا، إلا إنه كان لكل منهما حضور يتخطى جغرافيا المملكة.

تلك أمة قد خلت، وجاء زمان لم يجد النواب غير الجغرافيا للتعبير عن سخطهم! ولنكن صرحاء، فالنواب يريدون إخراج وزراء من حكومة الدكتور عدنان بدران بذريعة الجغرافيا، أكثر مما يريدون إدخال وزراء. والحملة على هؤلاء، كما بدا في اللقاء مع الكتاب والصحافيين مع الرئيس، ليس للجغرافيا، بل لما يمثلونه من استخفاف بقيم الدولة، والمجتمع، والوظيفة العامة.

في حكومة مضر بدران لم يكن ثمة مشكلة في تأمين الفاتورة النفطية، التي توشك أن تصل هذه السنة إلى ملياري دولار، وكان ثمة عراق لم يضربه الزلزال بعد. أما التحديات التي تواجه هذه الحكومة، فقد تكون أصعب وأعقد من تلك التي واجهتها حكومة مضر بدران. ومع ذلك، كان الرئيس يجد حوله فريقا وزاريا قادرا على تحمل المسؤولية، وقبل ذلك يجد سندا من مجلس نيابي متماسك سياسيا. وإلى جوار الحكومة، كانت ثمة لجنة ميثاق وطني، لم تتخلف عنها فعالية سياسية أو نقابية.

لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكن يمكن الاستفادة من دروس تلك المرحلة. فمجلس النواب الحادي عشر، الذي أنتج حكومة مضر بدران، كان نتاج قانون انتخابي يوصل إلى المجلس نواب سياسة أفقهم الوطن، لا نواب حارات أفقهم أدنى كسر عشائري. ولا يمكن في ظل قانون الصوت الواحد المجزأ إنتاج مجلس نيابي يتعامل مع الحكومة على أساس برنامجها السياسي لا على أساس وزراء الصدفة، والعلاقات العامة، ومحاصصة المحافظات.

على الحكومة أن تعيد قانون انتخابات القائمة، لأنه القانون الذي شكل ملامح الدولة الأردنية منذ تشكلت، وأن تلغي قانون الصوت الواحد المجزأ، الذي شوه ملامح الدولة والمجتمع. وساعتها سيأتي مجلس نيابي لا يوازي مجلس النواب الحادي عشر بل يتقدم عليه، وسيتمكن عدنان بدران من أخذ الثقة على برنامجه السياسي، دون الحاجة إلى "تعيين مائة وخمسين وزيراً"، سواء أكانوا وزراء صدفة أم محاصصة.

     [email protected]