رعوية سياسية واجتماعية

كما الاقتصاد الرعوي فإن كل عمل أو موقف أو نضال أو معارضة أو سياسة أو إدارة منفصلة عن المكان هي أيضا رعوية، لأن السياسة والثقافة والحكم والمعارضة تتشكل حول المكان، وفي غياب العلاقة بالمكان والانتماء إليه تتحول السياسة والمعارضة إلى رعويات سياسية وثقافية، ويمتد ذلك بطبيعة الحال إلى الانتخابات والنقابات والطبقات والأسواق والأعمال، ويستوي في هذه الرثاثة المتسولون وقارئو الحظ ومعارضات قومية ودينية وسياسات حكومية منفصلة عن المكان وأهله. اضافة اعلان
في الحياة الرعوية تتضاءل العلاقة بالمكان ولا يعود ثمة حاجة للارتباط به وإعماره وتطويره لأن جماعات الرعي والصيد وجمع الثمار والتجوال ترتحل دائما وتبحث عن الماء والكلأ، وفي ذلك فإنها تشكل منظومة اقتصادية اجتماعية ثقافية تحتقر الاستقرار والمستقرين، كالمجتمعات الزراعية والحضرية، وتنشئ معها علاقة قائمة على توازن مرعب.
الواقع أن الرعوية مصطلح بالغ التعقيد ويشمل اقتصاديا واجتماعيا جماعات المهمشين والأعمال والطبقات الرثّة، والرثاثة تعني ضعف المشاركة الاجتماعية والاقتصادية سواء كانت طبقات غنية ومتنفذة واوليغارشية أو كانت أعمالا وجماعات ضئيلة وهامشية، وقد ظُلم ماركس من قبل مؤيديه ومعارضيه عندما فهم مصطلح "البروليتاريا الرثة" على أنه ذم واحتقار، ولكنه كان يقصد بالرثاثة عدم المشاركة والإضافة، بمعنى أن كل من ليس جزءا من العملية الاقتصادية والاجتماعية فهو رثّ، مهما كانت المنزلة الاجتماعية والعائدات المالية لأعماله الرثّة، اقتصاديات الجوائز على سبيل المثال التي تقوم بها البنوك وشركات الاتصالات لا تختلف في رثاثتها عن بيع العلكة على الاشارات الضوئية سوى أنها في ضخامة طفيليتها ترهق المجتمعات والقيم والموارد.
وكما تتشكل المدن والطبقات والثقافة والقيم حول الموارد والأعمال فإن العمليات السياسية المنفصلة عن الموارد والمدن هي خروج من المجتمع أو خروج عليه، ويشمل ذلك كل النضالات والأعمال والمشاعر والانتماءات والأفكار الممتدة بعيدا عن الأوطان والمدن والطبقات والمصالح القائمة فيها أو غير المرتبطة بها مهما كانت تسمياتها وأناقتها وفصاحتها.
الظاهرة ليست فقط انفصالا اجتماعيا وخواء سياسيا وثقافيا، لكنها حالات خطيرة من الفشل والنزعات المؤذية والتدميرية، فهي تدفع أصحابها إلى سياسات واتجاهات تلحق الضرر من غير شعور بالمسؤولية بالقيم والمنظومة الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة المجتمعات والدول، فالمجتمعات في علاقتها بمواردها تنشئ متوالية معقدة من العلاقات والثقافة والفنون والقيم وأنظمة السلوك الاجتماعي وأساليب الحياة التي تتحرك باتجاه "حلزوني" لا يتوقف ويغير على نحو دائم في العمارة والمدن والموارد والأعمال والمهن والثقافة والفنون والسلع والخدمات، واخطر ما في الاتجاه الحلزوني أنه ليس حتميا ولا تلقائي الاتجاه بمعنى أنه ينشئ منظومة من المنافع أو الأضرار والتدمير، فلأجل حماية الأعمال والحياة تنشأ قيم الثقة والاتقان، وفي غياب هذه العلاقة تنشأ حالة مرهقة لا تتسع المساحة لملاحقة وملاحظة متوالياتها من ضعف كفاءة السلع والخدمات وارتفاع تكاليف الأمن والسلامة العامة، أنظمة المرور على سبيل المثال تمضي بسبب غياب هذه العلاقة إلى منظومة مرهقة من الصراع والأزمات والتنظيم الأمني والتقني، لكن يمكن توفير ذلك كله في ظل منظومة اجتماعية وسلوكية مستمدة من العلاقة بالمكان والمصالح.
الجدالات السياسية والدينية والعامة التي تجري في شبكات التواصل وأنماط السلوك والعلاقات في الشارع والمؤسسات والحياة اليومية تظهر حالة مخيفة ليست بعيدة منها نتائج الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية، فهذه الانتخابات بما هي مستمدة من سلوك جامع الثمار ليست معنية سوى بمكاسب أو مخاوف اللحظة القائمة بلا علاقة بماض أو مستقبل، ولشديد الأسف فإنه ما من حاضر أبدا، .. ليس ثمة إلا ماض أو مستقبل!