ضحايا العزلة والصمت

كثيراً ما يُنظَر لأساتذة الجامعات، وبخاصة من يمضون سنوات طويلة في التدريس، باعتبارهم خبراء في حقول اختصاصهم. ذلك صحيح من الناحية النظرية، بدليل تمكّنهم من تقديم معرفة عميقة لطلبتهم في موضوعات الدرس، وقدرتهم على تقديم معلومات نظرية كثيرة بشأن اختصاصهم لو كتبوا في الصحف، أو تحدثوا عبر التلفزيون.اضافة اعلان
أما من الناحية العملية، فلنا أن نناقش الأمر قليلاً: هل يبدع أكثر أساتذة جامعاتنا في طرح أفكار وحلول لقضايانا اليومية والمستجدة، لو طلب إليهم ذلك؟
بعد تجارب أظنها كافية، أستطيع استنتاج أن ثمة ما يمنع أستاذ الجامعة المبدع أكاديمياً، من التواصل مع الحقائق الميدانية الدائرة خارج أسوار الجامعة، بحيث يتمكن من فهمها فهماً عميقاً يساعده على طرح أفكار مفيدة بشأنها، تحوّل النظريات الأكاديمية إلى تطبيقات عملية. إن كثيراً من الأساتذة في جامعاتنا، وبخاصة المبدعين أكاديمياً منهم، معزولون في الحقيقة عمّا يجري عملياً على أرض الواقع؛ نتيجة استغراقهم في الجانب النظري. وهو أمر ينعكس سلبياً على مدى رؤيتهم لحقائق ذلك الواقع، ولا يمكّنهم من ثَمّ من استعمال معارفهم النظرية في وضع حلول عملية.
ما الذي يحدث حين يجري اللجوء لأستاذ جامعة مبدع، ولكنه على غير اتصال بالواقع العملي، من أجل صياغة خطط عملية لحل مشكلة ما، أو الوصول إلى تطوير ما؟ إنه بالضرورة سيطرح أفكاراً غير مفيدة، لا تصلح إلا للبحث الأكاديمي المتخصص؛ أي للمعرفة المجردة لا للعمل الميداني. عند ذاك، وتحت وطأة الإحساس بأن الأستاذ الكبير كبيرٌ في مجاله، يمكن أن يقع المحظور، ويجري التسليم بأفكاره باعتبارها "الحل"، ومن الطبيعي بعدها أن لا يتوفر الحل، بل تتعمق المشكلة.
الأساتذة المعزولون عن الواقع العملي، ليسوا متهمين، بل ضحايا. إنهم ضحايا الصمت الذي يسود جامعاتنا، وضحايا زهدنا بالأفكار، وتفضيلنا نهج "التجربة والخطأ" لحل مشكلاتنا، بخاصة الاجتماعية والإنسانية. إنهم ضحايا زهدنا بهم، وتركهم سنوات طويلة بين قاعة الدرس وقاعة الامتحان، حتى لم يعد بينهم وبين مستجدات الواقع معرفة أو احتكاك. ثم إنهم ضحايا تلك العُقد التي تدفع المرء للبحث عن "رتبة اجتماعية" يستخلصها من نجاحاته في العلم أو في العمل أو في الثروة، ليبني على أساسها علاقته مع محيطه، مترفعاً عنه وعن قضاياه اليومية، بدل أن يستعمل نجاحاته في خدمة مجتمعه ووطنه وأمته. إننا ندفعهم للعزلة، فهل يجوز لنا أن نلومهم؟
لا يجوز لنا. لكن علينا سريعاً، قبل أن نطالب بفك عزلة أساتذة الجامعات عن الواقع، أن نلاحظ ما يلي:
1 - تلك القدرة الإبداعية الهائلة التي تمتع بها نفر قليل من أساتذة الجامعات المرموقين، منعوا أنفسهم من تلك العزلة، وارتبطوا بالواقع كما يرتبطون بقاعات الدرس. وهو أمر تحقق نتيجة فاعليتهم الكبيرة ومجال تحركهم الواسع خارج الجامعات. لقد ذهبوا هم إلى الميدان من دون أن يطلب إليهم أحد ذلك. لقد ذهبوا، متطوعين، إلى مؤسسات العمل العام، فاختبروا الميدان ولم يتركوه خيالاً يكوّنون عنه انطباعات وظنوناً. وكان ذلك، بالتأكيد، مما تطلّب منهم جهداً ووقتاً ومالاً. تدور في ذاكرتي الآن أسماء عدد محدود من هؤلاء الأستاذة، وهم معروفون ومشهورون لأنهم حاضرون بيننا دائماً.
2 - أن الأمر الواقع، والمصلحة العامة، يمنعاننا من اللجوء للأساتذة المعزولين عن الواقع العملي في وضع حلول لمشكلاتنا أو ابتكار برامج عمل لقضايانا، بخاصة لأنهم لا يدركون حقيقة عزلتهم، بل يظنون أنهم قادرون على صياغة حلول مفيدة وعملية، من دون تجارب ميدانية سابقة، لمجرد كونهم يحملون رتباً أكاديمية رفيعة. المطلوب أن لا نحرجهم، وكذلك أن لا نجاملهم على حساب المصالح العامة والعليا.