مأساة لتركيا وأميركا

 

واشنطن، العاصمة - من بين ضحايا كُثُر أوقعتهم مصائب السياسة التجارية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ربما تكون تركيا الحالة الأكثر بؤساً حتى يومنا هذا. فقبل بضع سنوات كانت تركيا قصة نجاح على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي -وكان بوسع الولايات المتحدة أن تزعم بفخر أنها لعبت دوراً أساسياً في نجاح هذه القصة. وعلى الرغم من النزاعات الثنائية بين الحين والآخر، ظلت تركيا حليفاً يمكن التعويل عليه لعقود عديدة.

اضافة اعلان

لكن كل هذا بدأ يتغير في السنوات الأخيرة. وفي هذا الصيف، بدأ الاقتصاد التركي ينهار تحت وطأة السياسات النقدية والمالية شديدة التساهل. ثم استجابت الولايات المتحدة لرفض الحكومة التركية إطلاق سراح القس الأميركي السجين بمعاقبة البلاد بإقامة حواجز تجارية، فضلاً عن عقوبات مستهدفة. وقد أعلن ترامب أنه يعتزم مضاعفة التعريفات الجمركية المفروضة على الواردات من الألومنيوم والصلب القادمة من تركيا، إلى 20 % و50 % على التوالي.

ولعل أزمة العُملة التركية كانت لتخدم كجرس تنبيه وإنذار للحكومة التركية لعكس سياساتها الاقتصادية غير المستدامة. ولكن، نظراً لتصرفات إدارة ترامب، بات بوسع الرئيس رجب طيب أردوغان بدلاً من ذلك أن يلقي باللائمة على "الرصاص والمدافع وصواريخ الحرب الاقتصادية التي تشن ضد بلدنا".

من المؤكد أن أردوغان ليس ذلك الشخص البريء طاهر الذيل. ولكن ينبغي لنا أن نتذكر أن اندماج تركيا في الغرب عاد بفوائد استراتيجية كبرى على أوروبا والولايات المتحدة. فبعد الحرب العالمية الأولى وتفكك الإمبراطورية العثمانية، برزت تركيا في عهد الزعيم العلماني المجدد مصطفى كمال أتاتورك كدولة مستقلة مدفوعة بطموح وطني إلى الانضمام للغرب. وبعد الحرب العالمية الثانية، لاحقت تركيا هذا المشروع بكل جدية، بالانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (سلف منظمة التجارة العالمية). وفي الأعوام من 1950 إلى 1953، قاتلت القوات التركية تحت لواء الأمم المتحدة في الحرب الكورية.

ثم في العام 1963، دخلت تركيا في اتفاقية الشراكة مع الجماعة الاقتصادية الأوروبية؛ وفي العام 1995 دخلت في الاتحاد الجمركي للسلع المصنعة مع الاتحاد الأوروبي. ومؤخراً، قدمت تركيا الدعم الحيوي للجهود التي يبذلها الاتحاد الأوروبي للحد من الهجرة. وبذلك، من غير المرجح أن يدعم الاتحاد الأوروبي السياسة التي ينتهجها ترامب حالياً في التعامل مع تركيا، على الرغم من المخاوف الأوروبية بشأن سجل حكومة أردوغان في مجال حقوق الإنسان وسيادة القانون.

وصل حزب أردوغان، العدالة والتنمية، إلى السلطة في العام 2002، في أعقاب أزمة صرف أجنبي شديدة في العام 2001، والتي كانت مسبوقة بنحو نصف قرن من الزمن من النمو المتقلب. وبدعم من برنامج صندوق النقد الدولي، واصلت الحكومة الجديدة الإصلاحات التي بدأتها الحكومة السابقة، وفاق نجاح البرنامج كل التوقعات. وفي انتخابات العام 2007 في تركيا، تنامى الدعم المقدم لحزب العدالة؛ وبحلول العام 2010، كان نصيب الفرد في الدخل الوطني تضاعف إلى ثلاثة أمثاله منذ بداية القرن. وكانت تركيا ديمقراطية عاملة نجحت في تحقيق مرتبة الدولة ذات الدخل المتوسط.

لكن في السنوات الأخيرة، مع استمرار نمو الاقتصاد التركي، أصبحت حكومة أردوغان أكثر سلطوية واستبداداً. وفي شهر حزيران (يونيو)، أعيد انتخاب أردوغان لمنصب الرئاسة بموجب دستور جديد منحه صلاحيات تنفيذية غير مسبوقة. وفي الفترة التي سبقت الانتخابات مباشرة، ازداد الإنفاق الحكومي بشكل حاد، وضغط أردوغان على البنك المركزي التركي لحمله على إبقاء أسعار الفائدة منخفضة.

نتيجة لهذه السياسات، ازدهر الاقتصاد التركي في العام 2017، وبلغ معدل النمو 7.5 %. لكن هذا التوسع المفهوم كان ممولاً من خلال الاقتراض من الخارج، ومنذ ذلك الحين، ارتفع معدل التضخم إلى عنان السماء ليتجاوز 15 %، كما تجاوز عجز الحساب الجاري 5 % من الناتج المحلي الإجمالي.

مع إحكام الظروف النقدية في الولايات المتحدة، ومع مواصلة أردوغان لسياساته المالية والنقدية المتساهلة، سجلت قيمة الليرة التركية انخفاضاً سريعاً في النصف الأول من هذا العام، فخسرت نحو 20 % من قيمتها. وعلى نحو مفاجئ، وجدت العديد من الشركات التركية صعوبة متزايدة في سداد ديونها المقومة بالدولار بواسطة الليرة التركية.

كانت بوادر الأزمة الناشئة في تركيا مرئية بوضوح قبل توتر العلاقات الأميركية التركية الشهر الماضي. ولكن، مع مضاعفة الرسوم الجمركية في الولايات المتحدة على الواردات من الصلب والألومنيوم من تركيا، انخفضت قيمة الليرة التركية بنحو 12 % إضافية في غضون يوم واحد. والآن، انخفضت قيمتها بما يتجاوز 40 % في مقابل الدولار الأميركي هذا العام. ولم يكن من المستغرب أن يرد أردوغان بفرض رسوم جمركية على بعض الواردات من الولايات المتحدة؛ بينما أشار ترامب إلى أنه سوف ينتقم.

في الماضي لم تكن التعريفات الجمركية أداة تختارها الدول للضغط على دول أخرى. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ينبغي أن تعمل بطبيعة الحال على تأمين إطلاق سراح القس، فإن فرض تعريفات إضافية يُعَد إفراطاً في العقاب. فقد خضعت دول أخرى لعقوبات أكثر اعتدالاً عن أفعال أكثر فظاعة. وقد اتفق المجتمع الدولي لفترة طويلة على أن الحروب التجارية تشكل تهديداً مباشراً للنظام التجاري العالمي، وبالتالي لا يجب أن تستخدم كملاذ أخير (وعادة من خلال مؤسسات متعددة الأطراف).

لو لم يتورط ترامب في الأزمة التركية، فإن شعبية أردوغان كانت لتتراجع حتماً، وكانت سياسات حكومته الاقتصادية لتتغير. ومن منظور الجمهور التركي، كان ليتبين بوضوح أن المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد محلية الصنع، وأن أوقات الرخاء غير مستدامة. لكن أردوغان أصبح يتمتع الآن بمساحة معقولة للإنكار. فمن خلال التصدي للأجانب الذين "يشنون حرباً اقتصادية" على الاقتصاد التركي، نجح في الحصول فعلياً على المزيد من الدعم العام.

في أغلب أزمات الصرف الأجنبي، يمكن لحكومات الدول المتضررة أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي أو دول أخرى للحصول على الدعم المالي في سعيها إلى تطبيق الإصلاحات الضرورية. ولكن في حالة تركيا، تبدو التوقعات كئيبة. ولأن أردوغان اتهم الغرب بالفعل بشن حرب اقتصادية، فمن الصعب أن نرى كيف قد يتمكن من تغيير مساره وطلب مساعدته ودعمه الآن.

مع ذلك، وإذا لم يحدث بعض التغيير، فسوف تنتهي المواجهة الحالية إلى مأساة مزدوجة. سوف تخسر الولايات المتحدة حليفاً رئيسياً؛ وسوف يخسر الأتراك الفرصة لتحقيق الازدهار وتحسين مستويات المعيشة.

 

*كبيرة الاقتصاديين السابقة بالبنك الدولي، والنائب الأولى السابقة لمدير صندوق النقد الدولي، وهي أستاذة بحث في الاقتصاد الدولي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة، وجامعة جونز هوبكنز، وزميلة رفيعة في المركز الدولي التنمية، جامعة ستانفورد.

*خاص بـ ‘‘الغد‘‘، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".