مهمة دايتون و"عقيدة الأمن الفلسطيني"

مشكلة مهمة دايتون في أنّها تأتي بصورة متسارعة في سياق استحقاقات العملية السلمية، لكن مع توقف المسار السياسي وتعطله

هالة من الغموض، وأحياناً المبالغة، أحاطت بمهمة الجنرال الأميركي دايتون مع الأمن الفلسطيني. لكن مؤخراً، تولّى الجنرال دايتون نفسه الإفصاح عن طبيعة هذه المهمة وأبعادها والسياق السياسي والأمني الذي يعمل خلاله، وذلك بمحاضرة له في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى".

اضافة اعلان

الرجل يحدد دوره بوضوح في بناء "قدرات الأمن الفلسطيني"، والذي بدأ عملياً وبصورة متسارعة، منذ حوالي سنتين، بُعَيد سيطرة حماس على غزة (بالرغم من أنه عُيِّن منذ العام 2005، لكنه يقول أنه لم يحصل على التمويل الكافي إلا في عام 2007).

يرأس دايتون فريقاً أميركياً (يضم جنسيات أخرى) لتدريب الأمن الفلسطيني وتأهيله للقيام بمهمات حفظ الأمن في الضفة الغربية، وذلك بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي.

حتى الآن، تمّ تخريج دورتين من الأمن الفلسطيني، في مراكز في الأردن، كل دورة فيها قرابة خمسمائة فرد، وهنالك دورة من المتوقع أن يتم تخريجها الأسبوع المقبل، على أن يصل العدد المتوقع إلى خمسة عشر ألف فرد. ويجري حالياً تأهيل مراكز للتدريب في أريحا للقيام بهذه المهمة، ويحصل دايتون على مخصصات من الكونغرس، وصلت سابقاً لحدود 175 مليون دولار، وهذه السنة تبلغ 100 مليون دولار، ومن المتوقع أن تساهم دول عربية خليجية في عملية تمويل هذه القوات.

إلى هنا، لا إشكالية في بناء قدرات الأمن الفلسطيني وتطويره وتأهيله لحماية الاستقرار السياسي في الضفة الغربية، وتحكيم القانون ومواجهة العصابات المسلّحة، إنّما مشكلة هذه المهمة هي في أنّها تأتي بصورة متسارعة في سياق استحقاقات العملية السلمية، لكن مع توقف المسار السياسي وتعطله، فتبدو المهمة الرئيسة لـ"الأمن المتدرب" ليست في "بناء الدولة الفلسطينية" (لأنها غير موجودة على الأرض)، كما يذكر دايتون، إنّما في مواجهة خلايا حركة حماس والمقاومة، ومنع أي عمليات ضد إسرائيل انطلاقاً من الضفة الغربية.

حسناً، يحتج البعض أنّ حماس تقوم بالأمر نفسه في قطاع غزة، عندما تضبط الحدود مع إسرائيل وتعطي ضمانات بعدم استهدافها، إلاّ ضمن أجندة الحركة. ذلك، في الحقيقة، تشابه سطحي بين النموذجين، ولعلّ "العقيدة العسكرية" التي يتدرب عليها أفراد الشرطة الفلسطينية تعطي مؤشراً واضحاً وكبيراً على الفارق.

إذ تشير مصادر أميركية أنّ "الأمني الفلسطيني" يتدرب على الابتعاد عن السياسة ومتغيراتها، والتركيز على تنفيذ الأوامر الأمنية فقط، وهذه العقيدة تصلح في دول مستقرة راسخة وحكومات كاملة السيادة، لا مع الحالة الفلسطينية اليوم التي يفترض أنّها ما تزال في مراحلها الكفاحية للوصول إلى حقوق الشعب الفلسطيني.

دايتون نفسه يفتخر بكلمة ألقاها أحد الضباط الفلسطينيين، في حفل تخريج إحدى الدورات، تكشف اللثام عن مخرجات العقيدة التي يتلقّاها هؤلاء الأفراد. إذ يخاطب ذلك الضابط الخرّيجين (بالنص) ".. لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل، بل جئتم إلى هنا لتتعلموا كيف تحفظون النظام وتصونون القانون، وتحترمون حقوق جميع مواطنيكم..".

إذن، مع التأكيد على أهمية مواجهة العصابات المسلّحة وحماية القانون، فإنّ سلخ الفلسطيني من قضيته السياسية الرئيسة وهي مواجهة الاحتلال يثير أسئلة أخلاقية ووطنية كبرى. وفي الحقيقة الأمور لم تقف عند هذا الحد، فإنّ "أحداث قلقيلية" الأخيرة تشي بأنّ الواجب الرئيس لهذه القوات يتركز في ملاحقة حركة حماس نيابة عن الجندي الإسرائيلي، أي هو "احتلال ديلوكس"، كما يريده قادة إسرائيل.

الاحتلال الإسرائيلي كان مشككاً في عمل دايتون ومهمته في البداية، لكنه لاحقاً بدأ يشعر بالثقة بالمهمة التي يقوم بها، من خلال ما يؤديه أفراد الأمن الفلسطيني، وأخذ يمنحهم مزيداً من الصلاحيات والسلطات، ويعهد إليهم بمهمات اليوم، حتى في أكبر المدن في الضفة الغربية، الخليل، كما يفتخر دايتون نفسه.

ما الضمانة الإسرائيلية كي لا تنقلب هذه القوات بأسلحتها على إسرائيل، أو حتى تقوم بواجب المقاومة في مواجهة اجتياح إسرائيلي عسكري، دفاعاً عن أرضها وأهلها؟ الجواب يقدمه أحد المسؤولين الأميركيين بأنّ "أسلحة هذه القوات وذخيرتها غير مؤهلة لمواجهة الجيش الإسرائيلي، أكثر من يوم واحد"، هذا فضلاً أنّ عقيدتها تقوم على أنّ الخطر من الداخل، ليس من إسرائيل!

[email protected]