المؤسسات الدينية ليست هي الدين

الحديث عن إدارة وتنظيم الشأن الديني في الدولة والمجتمع، ليس دينا، ولكنه جدل عام وسياسي، يشبه الجدل حول دور وزارة التموين؛ هل نحتاج إليها أم ندمجها في وزارة التجارة أم نستغني عنها؟ ولا يتصل انتقاد أو تأييد التعليم الديني في المدارس والجامعات، أو دور وزارة الأوقاف والـ"محاكم الشرعية"، بفهم ديني أو موقف من الدين أو العلمانية أو السلفية أو الديمقراطية... وإنما هو جدل وطني وعام، لا يقع أبدا في دائرة الحلال والحرام أو الكفر والإيمان.. ولا المكروه أيضا.اضافة اعلان
ليس هناك تكليف ديني أمر به الله أن تتولى وزارة التربية التعليم الديني؛ فأن يكون في المناهج التعليمية مساق للتربية الإسلامية أو لا يكون، أو أن يكون محتواه تعليميا أو تطبيقيا، أو لأي مرحلة يكون أو لا يكون، هي مسائل تنظيمية سياسية (وسلطوية أيضا). وأن تكون كليات الشريعة جزءا من الجامعات، أو مؤسسات اجتماعية أو خاصة مستقلة، أو أن لا توجد، وأن يكون محتواها علما وفلسفة أو تأهيلا مهنيا لأئمة ودعاة، أو مذهبيا أو بلا مذاهب... هي كلها وغيرها من المسائل شأن عام وسياسي، مثل الجدل حول كليات العلوم والتربية والأعمال. ولم يأمر الله المسلمين أن يكون لديهم وزارة للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية. وإن وجدت هذه الوزارة، فليس أمرا من الله أن تتولى شؤون الدعوة والإمامة والوعظ والإرشاد والمساجد، وأن تنفق عليها. وليس أمرا دينيا أو إلهيا أن تكون "المحاكم الشرعية" مستقلة بنفسها وليست جزءا من المحاكم العامة "النظامية"؛ على العكس، فإن فصل المحاكم الشرعية عن النظامية هو العلمانية. لماذا يكون قاضي المحاكم "الشرعية" شرعيا، وقاضي المحاكم الأخرى ليس شرعيا؟ ما صفة وحكم قاضي محكمة البداية؛ هل هو ليس شرعيا؟ فإذا كنا ندعو إلى تطبيق الشريعة، فإن ذلك يشمل جميع المحاكم والمؤسسات. والأصل في بلد إسلامي أن يكون قاضي الأحوال الشخصية (وليس القاضي الشرعي) جزءا من المنظومة القضائية في البلد، وبخاصة أن قانون الأحوال الشخصية في الأردن قانون عام أقره البرلمان. وهذا هو المعنى العملي لتطبيق الشريعة.
لا بأس في الجدل الذي يثيره مشتغلون في الشأن الديني والعام حول دور ووجود مؤسسات الدولة. لكن تحويل هذا الجدل إلى صراع مزعوم بين الإسلام وما ليس إسلاما، هو اعتقاد أو توهم بأن مصالح ومواقف هي الدين؛ وهذا أسوأ ما يظنه مشتغلون بالشأن العام.
ولا بأس في أن يكون هناك -بل هو ضروري- مواطنون دعاة أو صحفيون يعملون في مؤسسات دينية. هذا يعني أنك تعمل في مؤسسة يمولها دافعو الضرائب، مثل أن تكون مدير اللوازم في معهد "البولتكنك". ويمكن أن يكون وزير الأوقاف وزيرا للأشغال (وهذا ما حصل مع المهندس رائف نجم)، ولا بأس في ذلك أيضا. ولكن لا تحسب نفسك تمثل الدين. فليس خطأ بالطبع أن تكون داعية وصاحب رسالة دينية، ولكن وظيفتك الأساسية هي تسهيل عمل المؤسسة في أداء دورها ورسالتها، والتي تخصص على أساسها أموال من الخزينة، منها رواتب الأئمة والدعاة.. ومكافآت الصحفيين!
ولذلك، فإن وظيفتك المفترض أن تتقاضى عليها أجرا متعلقة بالمؤسسة الحكومية وليس بالدين. ومن الجيد، بالطبع، أن تدافع عن الاسلام وترد على خصومه، لكن لا تخلط بين الإسلام وبين المؤسسات والوزارات. ويجب أن تكون متأكدا أن المسألة هي بالفعل صراع بين الإسلام وخصومه، أو هي جدل تنظيمي وسياسي حول دور الدولة ومؤسساتها، وكلها مسائل لم ترد في قرآن ولا حديث، وقد ظهرت هذه المكتبة الدينية والمؤسسات الهائلة على مدى التاريخ والجغرافيا من غير أن يكون للمسلمين وزارات للأوقاف ولا مناهج لـ"التربية الإسلامية" ولا كليات شريعة تنفق عليها السلطات. كل هذه المؤسسات أنشأتها الدولة الحديثة في سياسات تنظيمية وسلطوية لم يأمر بها الله ولا رسوله ولا صحابته، ولا وردت في مذهب. وكل تراث المسلمين الديني والفقهي والعلمي، لم يكن تابعا لسلطة سياسية.