ثلاثون عاماً.. ثمّ خبز الشعير!

جاء دوركَ، أخيراً، تدخلُ إلى الطبيبة المصريّة، تناولها أوراق الفحوصات بأرقامها ورموزها التي لا يتاح لطالب آداب بمعدّلٍ مقبولٍ أنْ يفكّها. تجلسُ أمامها كالذي ارتكب جريمة قبل ثلاثين عاماً، وكان يخشى في كوابيسه أنْ تكتشَفَ في عيادة الباطنيّة، وكمَنْ يملكون الحاسة السادسة، ويشاهدون في نومهم ما سيحدث في واقعهم، أخبرتكَ بمهنية جافة، أنكَ لن تكون بعد اليوم حراً، وأنّ جريمتكَ التي مارستَها بلذة طوال حياة لم تعد لك، كُشِفتْ اليوم، بالأرقام والرموز التي تعني أنّكَ منذ اليوم محرومٌ من إطالة المرور أمام المطاعم الدهنية، أو تناول “الحواضر” غير المنسجمة، وتلبية دعوة صادقة لـ”منسف” كامل الدسم. عليكَ منذ اليوم أن تخبئ قطع الحلوى بعيد الفطر في جيوب المقاعد، وتكذب بأنكَ تواصل الصيام، ثم تتذكر أن كلَّ ذلك قد حدث لأنكَ “لم تعد في الثلاثين”!اضافة اعلان
تدخل المطعم “الدهنيَّ”، تبدو شاباً لولا الأبيض الزائد على سالفيك، يأتيكَ النادل بقائمة الطعام، تتجاهل بدلته السوداء، تراها بيضاء من مستودعات مستشفى البشير، وعليه إذنْ أنْ يحسِبَ عليكَ حبّات الملح في السلطة الخضراء، الخضراء تماماً، وإنْ زدنَ واحدةً ينصحكَ بأن تخرجَ من حقيبتكَ المتحفّزة جهاز قياس الضغط، وعليه أيضاً أن ينصحكَ بحرص آمِرٍ باللحوم البيضاء وتجنُّب الحمراء، وأنْ تستبدل الخبزَ الفرنسيَّ الأبيض بالشعير، وبالطبع لن يقصد سوى “خبز التنحيف”، ويبعد عنكَ السكّر الأبيض الناعم، ويقرّبُ منكَ البنيِّ الخشن، ويشير لك في علبة الشاي إلى اللون الأخضر، ولا مانع لو أردْتَ الغناءَ للأحمر، ومن سلة الفاكهة الملوّنة تستطيع انتقاء حبّة الكريب فروت الصفراء، ولا تخرج قبل أنْ تعرفَ أنّكَ تعبْتَ، وكهلتَ، وأنّ الطعامَ، كما لم تعرف من قبل، له ألوان!
وأنتَ الآن مهمومٌ، ولديكَ هَمٌّ يُبْكي، ويُضحكُ أحياناً، مثل هذا الرجل الشائع في بلادك، الذي يتناول بكف واحدة منسفاً مكسواً بالأرز المصريّ السمين بالنشا، واللحم البلديّ المشبع بالدهون والكولسترول، والكنافة النابلسية الغارقة بالقَطْر، إلا أنّه عندما يتجشأ، يطلبُ علبة سفن آب يشترط أنْ تكون بيضاء “دايت”، أو شاياً بنصف معلقة سكّر بني. أيضاً يضحكك، أن تتذكَّر علاء وليِّ الدين، الفنّان الظريف، الراحل في التاسعة والثلاثين بمضاعفات السكريِّ. كان علاء ينوي بإرادة قوية تخفيف الدهون والسكّر في جسمه، فتعاقد مع شركة أغذية عصريّة، تأتيه بالطعام الصحيِّ الذي سيجعله كائناً ألمانياً رشيقاً: علبة أنيقة بها أوراق خس، وشرائح جزر وخيار، وقطعة لحم بيضاء مسلوقة. يأكلها، يحدث هذا بالوقت الذي يكفيكَ للبسملة، ثمّ يقول بخفة دمه: “الأكل الصحي وكَلْناه، فين بقى الأكل بتاع ربِّنا”!
تشعرُ بالجوع. هذا الأمر بعد الثلاثين مؤرِّقٌ، ولم يعد يحلُّ بطلب هاتف المطعم الأميركي المُهَدْرج، وليس بالسهولة التي كنتَ تظنُّ بأنْ تفتح الثلاجَة، وتمزج صنفين من اللحوم الباردة والأجبان الصفراء بين طبقتين من خبز “التوست”. لا يا صديقي، عليكَ أولاً أنْ تدخلَ مرتبكاً إلى حجرة غوغل، تضع قائمة الطعام الذي تنوي أنْ تأكله في مستطيل البحث، وبجانبه المفردات السلبية، مثل دهون، سكّر، كولسترول، ثم تختار وجبتكَ، بناء على المعلومات غير الموثوقة، وإنْ لم تثق، لكَ أن تختار صديقاً له سوابق ثلاثية في الدهون، أو “زميلاً” يسبقك بـ”كورس” في الكولسترول، أو قريباً من الدرجة الثانية حملَ عنكَ السكريّ تسعة وثلاثين عاماً. وتأكلُ، بلا شهيّةٍ، كأنها أوَل وجبة بعد وفاة أبيك، منزوعة الخَيْر!