"داعش" على جدران "فيسبوك"

يؤسفك ان تصطدم يوميا بما يحصل، على صفحات "فيسبوك"، عندما تنضح بعضها بالفكر المتدني والقمعي والمتحجر، والمتطرف والداعشي أيضا، الذي وصل إليه البعض. انحدار ما بعده انحدار، في القيم والفكر تراه يوميا، عندما تقرأ تعليقات بحق مناضلين دفعوا حيواتهم وأرواحهم دفاعا عن أوطانهم، وقدموا فلذات أكبادهم، ليأتي تقييم هؤلاء المناضلين من أشخاص مختفين وراء وجوه مقنعة، عبر صفحات "فيسبوك"، يخلطون بين الإرهابي والمقاوم، بين الأسير والجلاد، فتعرف وقت ذاك، أن البوصلة ضاعت.اضافة اعلان
تأسف على أولئك، مما يعانونه من قصر نظر، ورؤوس حامية، من دون مبرر أو أسباب مقنعة، وإنما لأنهم سمعوا من هذا، أو شاهدوا ذاك، فتراهم غير واعين لما يدور حولهم، بلا موقف أو هدف، والأنكى أن أولئك الذين يحتلون صفحات "فيسبوك" باتوا منظرين سياسيين ومحللين أيديولوجيين، ومفتي دين، وأئمة مساجد، يعرفون فنون الحرب، وما يدور في غرفة نوم بوتين، وماذا قالت ميشيل أوباما لزوجها عندما كان يحلق ذقنه، كما يعرفون أيضا عدد القوات الإيرانية والروسية في سورية، وكيف يفكر هذا الفريق، وبماذا سيرد ذاك.
الحالة تلك تنبئ بوجه من حالة الانحدار المجتمعي، التي بتنا نلمسها، ليس في الأردن وحده، وإنما في كل الوطن العربي، وما عليك لإثبات ذلك، إلا تصفح الشبكات الاجتماعية، لترى بأم العين، كم نحن مجتمع افتراضي، يعيش عالمه الخاص وبطولاته غير الواقعية الدينكوشتية، وقتها يمكن معرفة كم توجد لدينا أفكار متطرفة، ورؤى شاذة، وبوصلات منحرفة، وقاموس من الشتم والردح والتشكيك. حينها ستعرف أي دكتاتورية خاصة يعيشها ويمارسها البعض في عالمه الافتراضي، يوزعها على الآخر، بتسلط، وعبر القذف والشتم وأبشع الألفاظ.
ولكي نجرب ذلك، فما علينا إلا أن نختلف معهم في موقف معين، أو نبدي رأيا مختلفا عن رأيهم في الأزمة السورية، أو اليمنية، أو أن نعتبر أن مشكلتنا الحقيقية ليست مع إيران مثلا، وإنما مع إسرائيل، أو أن نعتبر زهران علوش مثلا قاتلا وإرهابيا، وقتها ستنهال عليك شتائم، ستطال الأم والأب وباقي أفراد العائلة، وسنعرف يقينا أننا بالفعل عالم افتراضي وهمي، "يناضل" عبر صفحات "فيسبوك" أو "تويتر"، عبر الشتم، فيما يمارس خنوعا وقطع لسان في العالم الحقيقي، حيث تراه هنا كالنعامة، رأسه في الرمل.
وقتها، سنعرف أننا مأزومون ديمقراطيا وفكريا وإنسانيا وحضاريا، وأن مثل أولئك، وهم كثير، بحاجة لمئات السنين حتى يؤمنوا بحق الآخر في الاختلاف، وسنعرف أن فولتير لم يكن يوما يخاطبنا، نحن أبناء هذا العالم، عندما قال مقولته الشهيرة: "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك".
لو فتحت وتصفحت العالم الافتراضي، لوقفت على حجم الكراهية والفتنة التي تسيطر على البعض، ولعرفت أننا الكثيرين مسكونون بكره الآخر والحقد عليه، ولعرفت أن بعضنا قد باع دماغه لبعض المحطات الفضائية، فباتوا كالببغاوات يرددون ما يسمعون من دون تفكير أو حتى تبصر.
شخصيا، أعتقد أننا بحاجة أكثر من أي وقت مضى للعودة للوراء، إلى زمن جدتي، التي كانت تبكي ظلم الإنسان، من دون إن تسأل عن نسبه أو دينه أو لونه، ومن دون السؤال إن كان مسلما أو مسيحيا أو سنيا أو شيعيا، كرديا أو درزيا.
اليوم بات نضال البعض "فيسبوكيا"، إلكترونيا وهميا، يشتمون من يريدون، يخوّنون من لا يعجبهم، وينعتون كل من يختلف معهم بأبشع الأوصاف، ومن ثم يحدثك أولئك عن دكتاتورية هذا النظام أو ذاك، فيما ترى أولئك المأزومين فكريا يمارسون دكتاتورية أبشع من دكتاتورية الأنظمة التي ينتقدونها. حقيقة الأمر، أن على آراء ومواقف مثل هؤلاء ينشأ "داعش" و"النصرة" و"جيش الإسلام"، وغيرها من المنظمات الإرهابية التكفيرية، وعلى مثل هؤلاء تتغذى وتسمن وتتمدد.