روسيا والعظمة المفقودة

عقب عقد من التيه الذي تلا انهيار الاتحاد السوفيتي العام 1991، بدت روسيا جادة في البحث عن عظمتها المفقودة. العقد التالي، الذي ارتبط أساساً بالرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين، بدا حتماً مختلفا بكل المقاييس عما سبقه. لكن الربيع العربي تحديداً، يكاد يؤكد أن سنوات الصعود الروسي الماضية قد سلكت، في المحصلة، طريقاً خاطئة نحو استعادة المجد الروسي الذي بات مضيعاً أكثر منه ضائعاً، على المستوى الدولي.اضافة اعلان
فروسيا لا تدرك حتى الآن أن الربيع العربي هو اللحظة التاريخية التي انتظرتها عقوداً للولوج إلى مكانة العظمة الدولية مجدداً. وقد ارتكبت أولى خطاياها في حق نفسها بموقف مهتز من الثورة وواضح الميل إلى نظام معمر القذافي. ومع تأكد انهيار نظام الديكتاتور متعدد الولاءات الدولية، يحاول الكرملين إيجاد مكان بين المنتصرين والعودة للتأثير من خلال الأمم المتحدة، بالدعوة إلى دور أكبر لها في ليبيا ما بعد القذافي، بدلاً من حلف "الناتو" وأعضائه الغربيين الذين لا يكنون لروسيا ولا تكن لهم كثير ود، وإنما كثير ريبة وتشكك! لكن هنا تبدو القيادة الروسية وكأنها تخادع نفسها فقط، لأنها المسؤولة أساساً (مع نظيرتها الصينية) عن تحييد المنظمة الدولية، وبالتالي تمكين "الناتو" من أن تكون له اليد الطولى، والفضل الأكبر دولياً، في ليبيا الثورة.
"روسيا العظمى" لا تتعلم من خطاياها وأخطائها، بل تكررها في اليوم التالي تماماً، وهذه المرة في سورية.
فقد كان بمقدور روسيا أن تكون عظمى فعلاً، وأن تكون وحدها صانع الربيع في سورية بأقل الخسائر وبأعظم قدر من المكاسب للجميع، بما فيهم النظام السوري الحليف. لكن سطوة النفوذ والتأثير الروسيين يقدمان لذاك النظام بثمن بخس، وليتم استخدامه سفكاً لدماء المواطنين السوريين، وهدراً لمكانة وهيبة روسيا التي تغدو راعية لكل استبداد في العالم العربي، وضد كل الشعوب الطامحة لحياة أفضل.
ولعل من المثير للكثير من الغرابة أنه فيما ترفض "الدولة العظمى" إدانة النظام السوري في قمعه الوحشي لمواطنين عزل، وتندد بالعقوبات الأوروبية، بل وتدين المعارضة السورية التي "ترفض الحوار!"؛ يقرر أقرب حلفاء النظام السوري في المنطقة والعالم ككل، الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الكف عن التعامي وإنكار الواقع، مطالباً بشار الأسد صراحة وعبر تلفزيون دولي "بالكف عن استخدام العنف" ضد شعبه!
ولا تبدو هذه الغرابة قابلة للتبديد إلا باستنتاج أن روسيا "العظمى" تصر على أن تستلهم عظمة الاتحاد السوفيتي، إنما في ملمح واحد، هو الأكثر سواداً وبؤساً: الإمعان في إهدار حقوق الإنسان، واعتبار ذلك القيمة الروسية العليا على امتداد تاريخ طويل. لكن إذا كان هذا الملمح هو من أجهز على الاتحاد السوفيتي وأدى إلى تفككه رغم كل ترسانته العسكرية والنووية، أفليس منطقياً القول إن الموقف الروسي من الربيع العربي قد يودي بعظمة روسيا الدولية إلى التهلكة، وإلى الأبد؟ ذلك أن الشعوب العربية ستنتصر رغم موقف روسيا وسواها؛ وإن كان لهذا الموقف من تأثير حقيقي فهو ليس أكثر من تأخير الوقت ورفع فاتورة دماء الأحرار.