عندما يتعرى الثوار

صحيح أن ألسنة اللهب المتصاعدة من نوافذ المجمع العلمي المصري حملت مع غبارها المتطاير جزءاً مهماً من تراث مصر وتاريخها، لكن الأكثر صحة ووجعا مشهد أحد جنود الجيش المصري يمسك إحدى الفتيات من شعرها، ويقوم بسحلها في الشارع العام، وينزع عنها ملابسها، فيما يقوم جندي آخر بتوجيه عدة ركلات لها بقدمه فوق قفصها الصدري، ويدوس ببسطاره العسكري على صدرها العاري، تحت مرأى عدد من الجنود. مشهد خلق جرحا في الروح والضمير، والخوف على مصير الثورة التي وضعها الثوار وديعة في أيدي المجلس العسكري والجنود الذين تركوا ثكناتهم ليسحلوا ثوار التحرير وعشاق الحرية.اضافة اعلان
ثوار ميدان التحرير الذين ما يزالون يحرسون حلم الثورة، رصدت إحدى ناشطاتهم مكافأة مالية قدرها 10 آلاف جنيه لمن يعثر على الشرطي المتهم بتعذيب المتظاهرين وسحل الفتاة، وقاموا بنشر صورته. هذا الرصد هو برسم المجلس العسكري، الذي بالتأكيد شاهد الفتاة وهي كالفريسة بين أيدي جنوده.
مشهد الفتاة مسحولة أثار بركان غضب بين المصريين، وكل من شاهد الفتاة، وعجّت مواقع التواصل الاجتماعي بإدانات واستنكارات لما قام به الجنود المصريون ضد المحتجين، وخاصة عمليات سحل الفتيات وتعريتهن، فأصبحت صورهن أيقونة جديدة للثورة المتجددة في مصر، التي لن تستكين حتى يضع الثوار لمساتهم على مستقبل الدولة المصرية ما بعد الثورة، لأن هذه المشاهد لا يمكن أن تكون في زمن الثورة، وإنما حصريا في الزمن الذي ثار الشباب المصري ضده.
ليس مشهد الفتاة مسحولة استثناء على الصورة الحديثة لمصر ما بعد الثورة، فالشبكة العنكبوتية، لاسيما موقع "فيسبوك"، تعج بصورة يؤكد ناشرها أنها من تسجيل فيديو، يُظهر تعدي أحد الجنود المصريين على المتظاهرين أمام مبنى مجلس الشعب، وذلك بالتبول عليهم من أعلى المبنى، فيما يقوم رجل أمن آخر بحركات استفزازية وإشارات بذيئة للمحتشدين الذين كانوا يلقون الحجارة.
هذه المشاهد المؤلمة حقا، تترافق مع تزايد الاهتمام الشعبي والإعلامي المصري بالضابط محمود الشناوي، الملقب بـ "قناص العيون"، بعد أن التقطته عدسة موبايل الشاب أحمد سعيد خلال مظاهرة وهو يستهدف بسلاحه أحد المتظاهرين ففقأ عينه.
لا يدري المرء كيف ولد كل هذا الحقد والإرهاب داخل ضمير ذاك الجندي الذي يمارس سحل الفتاة بكل عنف وتجبر وكأنه ليس بشرا، وإنما كتلة من الإرهاب والكره، وفي لحظة وجد فريسته فأخرج من داخله كل هذا العنف والغضب. كيف يتربى هؤلاء الجنود، وأي عقيدة حاقدة يتعلمونها ضد شعبهم؟! أين أخلاق العسكرية عندما يصل الأمر بجندي ليبول على أبناء شعبه الذين ثاروا ويثورون لمصلحة بلدهم اولا، وذاك الجندي أول المستفيدين، من خيرات تلك الثورة، على الأقل في تحسين أوضاعه المعيشية، وراتبه الذي لا يكفي لربع الشهر؟
ندرك جيدا أن الثورات والانتفاضات الشعبية حتى الآن تعاني. الذين صنعوا هذه الثورات والانتفاضات ليسوا شركاء حتى الآن بالقرار. وبالتالي هناك محاولات من الثورة المضادة لأن تجمع قواها لتحول هذه الثورات من ثورات شعبية لها برنامج؛ إلى مجرد تغيير الطابق الفوقي في السلطة، أي تغيير أشخاص بأشخاص، هنا الخطورة الكامنة المقلقة. اذا تعرى الثوار فهذا لا يقلل أبدا من قيمة الإنجاز التاريخي الذي حققوه، وبالتأكيد فإن في تعريتهم بالطريقة البشعة التي تعرت بها تلك الفتاة، تعرية حقيقية لكل أعداء الثورات، والذين يريدون أن تعود الأمور الى الوراء. ومشهد الفتاة المسحولة تصدر واجهات غلاف الصفحات الأولى لعدد من الصحف العالمية، فأي فضيحة أكبر من ذلك؟

[email protected]