فوضى الفتوى الخنّاقة

ما حُكم الدين في التّخلف العلمي للأمة؟ ما حُكم الدين في أن الأمة عالةٌ تكنولوجية على البشرية؟ ما حُكم الدين في ارتفاع نسبة البطالة؟ ما حُكم الدين في المستوى العلمي المُتدنّي للجامعات العربية؟ ما حُكم الدين في استضافة الأردن لهذا العدد من اللاجئين، وبلاد الخليج الغنية لا يستطيع أن يدخلها طائرٌ من دون "فيزا"؟!اضافة اعلان
عوضاً عن هذه الأسئلة وغيرها، لماذا ينشغل "علماء الأمّة" بفتاوى إرضاع الكبير، وزواج الصغيرة، وختان المرأة، ومكان وزمان وظروف وأوضاع وأشكال وأنواع النكاح والزواج؟ ما سر هذا الهوس بفتاوى الجنس وما حوله؟ والأهم، هل ساهمت تلك الفتاوى في شيوع الفضيلة والحد من التّحرش والسّفاح ونِسب الطّلاق أو ضرب النّساء؟! ما هذا الهوس بفتوى تكفير الآخرين وإقصائهم؟! ولنا أن نسأل -وبمنطقٍ براغماتيّ بحت- أليست مهمة الدين الإسلامي أن يدعو الكافة للإسلام؛ وكيف تتم دعوة من يجري إقصاؤهم وإهانتهم؟!
كيف لأمّة تُواجه تحدياتٍ ثقافيّة وعلمية واقتصادية، أن تُواجه كل هذا "بعالِم دينٍ" لا يعرف عن العِلْم والعالَم شيء؟ عالِمٌ لا يُقدّر العِلم ويتوجّس من التكنولوجيا، وقد لا يكون غادر مدينته قَط. وإذ تُقيم البشرية مختبرات لفيزياء ما بعد الذّرة، وتُطور "روبوتات" لإجراء عمليّات جراحيّة دقيقة، فإنّ "عالِمَنا" مهووسٌ "بتحليل" الزواج من طفلة بعمر الرابعة عشرة!
كيف نقبل أن يُحصَر الدين بـ"رجالٍ" قاموا بالتفسير حسب زمانهم وثقافتهم وميولهم السياسية والاجتماعية؟ وكيف نقبل أن يُقدّموا تفسيرهم للدين باعتباره جزءاً من قدسية النص الإلهي ذاته؟ فإن النص الإلهي ثابت، أمّا التفسير فهو بشري قاصرٌ ومُتغيرٌ، وقد يعتريه الهَوى والغَرَض. كيف نقبل ذلك وقد وضع بعض المفسرين نسخةً أرضيّة للرسالات السماوية، هي من نِتاج فَهمهم فقط، وأن تلك النّسخ الأرضية للرسالات السماوية احتكرت الصواب لذاتها وأقصت الديانات الأخرى، كما أنها كفّرت الطوائف الأخرى من ذات دينها، حيث اعتبرت أن فَهمها هو فَهم "الفِرقة الناجية" وأن فَهم "الفِرق" الأخرى منحرفٌ ومحرّف؟
كيف نقبل مثل هذا المنطق؟! خاصةً أن تلك النسخ الأرضية للديانات السماوية لَم تقف عند الخلاف الفكري والعَقَدي، بل حاربت غيرها بالقُوّة والقتل والتدمير؟ هكذا حارب الكاثوليك البروتستانت لمدة ثلاثين سنة، وهكذا تقاتل الشيعة والسُّنة سنويّاً لمدة ثلاثمائة سنة منذ العام 325ه وحتى سقوط بغداد.
معقول؟! عندما يكون للأمّة الإسلامية تحديات مثل صراع الشيعة والسنة، أو توزيع عوائد النفط على التنمية، أو الاستعمار الفعلي والاقتصادي، معقول أن يجد "مشايخ دين" الرّفاهيّة الوقت الكافي للتمحيص ودراسة إذا كان يجوز تهنئة المسيحيين بأعيادهم؟!
أيُّها الناس، يا مَن تغارون على حضاريّة وقِيَم عقيدتكم، إنّها حربُنا لفصل الدين عن التخلف، ولوِقف الرُّعاع (مثل البغدادي) من أن يَتَوَلّوا قيادة الأمة وغيره. هذا الدين العريق السَّمح يستحق أفضل من هذا، ويحتاج أن يَنهض به رجالٌ ونساءٌ واعون ومثقفون ومُطّلعون على العلم والتكنولوجيا والثقافة والفنون إلى جانب العلم بالدين نفسه.
إنّها حربنا الإسلامية لفصل الدين عن مِكْنَة التكفير والقتل؛ فلم يعد كافياً القول إن العَيْب في المسلمين وهو في بعضهم كذلك، بل يجب فصل الدين عن كل ما لَحق به من أشكال الاستغلال والتجهيل. ولا مجال لذلك إلا بالدولة المدنية؛ حيث يُتيح لك المجتمع اختيار فضيلتك في نطاق القانون، حيث يُحترم التّدين، ويُمنع القهر والتكفير وفرض الرأي بالقُوّة، سواء كان دينياً أم سياسياً، إن الدولة المدنية أمسَت حاجةً إسلامية قبل أن تكون حاجة إنسانية.
لهذا؛ ارحمونا من فوضى الفتوى الخنّاقة، ولنبدأ رحلة دولة الإنسان القائمة على قِيَم الله أو الحق والخير والجمال، كُلٌّ حسب إيمانه في ظلّ دولة القانون التي تحمي حريّة التّدين السّلمي وتَمنع التّدين العُنفي، حيث تكون "حرا ولكن لا تضر".
بالصوت العالي وبكل الحب نقول لأهلنا المسيحيين: كل عام وأنتم بخير، وأعياد مجيدة للجميع ولو كَرِه المُتنطّعون!