كنا وحدنا في ساعة الشدة

حتى الأمس القريب، بدا الطيار البطل معاذ الكساسبة حكاية أردنية فريدة ومتفردة، تخص أبناء شعبه وحدهم؛ تشغل بالهم وتؤرق جفونهم، توحد الناس وتستثير لديهم أنبل مشاعر التعاطف وأحرها مع العائلة الصغيرة، مع الأسرة الكبيرة، ومع الدولة التي ظلت لأكثر من أربعين يوماً، بلياليها الطويلة، تسعى بكل ما لديها من حكمة وحنكة، إلى تحرير الابن الذي صار قرة عين سبعة ملايين مواطنة ومواطن، داخل البلاد وخارجها.اضافة اعلان
كنا طول هذا الوقت العصيب نشعر أننا تُركنا في ساعة الشدة وحدنا. تلفتنا ذات اليمين وذات الشمال، فلم نر من يعبر عن وقفه تضامنية حقيقية معنا، ولم نلمس يداً دافئة تشد على أيدينا؛ لا من الأشقاء ولا من الأصدقاء، الذين بدوا متفرجين علينا صامتين. ولا حتى من أعضاء حلف الستين دولة، الذين كانوا في سرهم يبتهلون إلى الله ويحمدون لطفه، أن جنّبهم مثل هذه المحنة التي حطت في حجر غيرهم؛ في حجرنا نحن لسوء الطالع.
كان العتب مكتوماً في الصدور الكبيرة، ولواعج الأسى والحس بالخذلان تعتصر النفوس الأبية. إلا أننا أمسكنا عن البوح، وعضضنا على الجرح بكبرياء الرجال الذين لا تشتت شملهم الرياح العاصفة. بل إننا أعرضنا، رغم الشعور الممض الثقيل، عن العتب واللوم، أو إبداء الشكوى إزاء كل هذا الصمت المريب من جانب الأشقاء والإخوة، بمن هم معنا في الهم شرق، ومن نحن معهم في الحرب ضد الإرهاب.
أوجعنا كل ذلك، غير أن أحدا لم ينبس بيننا ببنت شفة، أو يتبرم علناً من وحشة الوحدة، إلا عندما أظهرت الولايات المتحدة، التي تقود التحالف الدولي، اعتراضاً وتعاليا على التفاوض غير المباشر مع القتلة، بحجة أن ذلك لا يجوز إلا للدولة العظمى، الأمر الذي طرح لدينا أسئلة مفعمة بالدهشة، فرحنا نساءل أنفسنا: ماذا لو أن معاذ كان أميركياً؟ ولماذا لم تقم قائدة التحالف بمحاولة لإنقاذ الطيار طول نحو تسعين دقيقة وهو في الماء، قبل أن يؤخذ رهينة؟
غير أنه عندما جرى ما جرى للشهيد معاذ، وبات النبأ المفجع يملأ الفضاء، انقلب الموقف قليلا؛ فتكاثر المتضامنون والمعزون، وفتح الصامتون أفواههم بكلمات المواساة الطيبة. إلا أن ذلك لم يطفِ النار التي أحرقت قلوبنا، ولم يهدئ الروع أو يبلسم الجرح الذي غار عميقاً في أفئدتنا. فقد ظل الشعور بالخذلان يستولي علينا، وبقيت الأسئلة الاستفهامية حول هذا العقوق تحير أمرنا.
وأحسب أن كل هذا كان في كفة من الميزان، فيما كان الصدود في الكفة الأخرى، خصوصاً عندما انبرى البعض في جوارنا يلوم الضحية، ويحملها نصاب المسؤولية. ونعني بهؤلاء جماعات الإسلام السياسي التي لم تجرؤ واحدة منها على إدانة هذه الفعلة الرهيبة، أو وصف هذا العمل الشيطاني الآثم بأنه جريمة إرهابية، وإن قالوا باستحياء إنه حرام وليس له مبرر.
كان أكثر من كل ذلك خسة ما جاء على ألسنة بعض نواب "حماس" وفقهائها في قطاع غزة، أولئك الذين حمّلوا الدولة الأردنية كامل المسؤولية، وألقوا بعض اللوم على إدارة أوباما، زاعمين أن الأردن كان يساند النظام السوري في حربه ضد شعبه (كذا)، وأن منتسبي "داعش يعتبرون بصورة أو بأخرى مسلمين، ولا يجوز أن نقف مع أعداء الله ضد أهل الله"، وذلك في وقت كان فيه المئات في رام الله يعبرون عن تضامنهم القلبي، في وقفة ليلية عفوية أمام السفارة الأردنية، فيما راحت المدن الأخرى في الضفة الغربية تفتح سرادقات العزاء، كي يعزي الناس أنفسهم بأنفسهم.
نحن لا نتصيد الأخطاء، ولا نفتش عن مثل هذا الكلام المشين بحق أصحابه. إلا أن كل هذا الانجراف وراء استجرار العداوات المجانية من كل صوب وحدب، بما في ذلك عداوة المصريين والأردنيين على وجه الخصوص، وهم أقرب الأقربين، أمر غير قابل للفهم، حتى وإن كان القوم في لجّة حصار مديد، يتخبطون في البحث عن مخرج لأزمتهم، فإذا بهم يقطعون المزيد من وشائج التعاطف معهم، ويغلقون كل نافذة أمل قد تفتح لهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.