كيف تتفكك الدول اليوم أو تنهار؟

أطنب المفكرون والفلاسفة والعلماء والأدباء والكتّاب والسياسيون.. في بيان الأسباب والعلل المؤدية إلى تفكك الدول وانهيارها؛ كالاستبداد، والظلم وشعور الناس به، أو الفقر أو الفساد، أو العنصرية أو الطائفية أو المذهبية.. أو العدوان الخارجي.اضافة اعلان
وعليه، لن أدخل هنا في مناقشة تلك الأسباب والعوامل، لأنها ليست موضوع المقال، وليس لدي ما أضيفه إلى ما هو معروف منها. إنني معنيٌ هنا ببيان كيفية أو عملية أو آلية تفكك الدولة وانهيارها في هذه الأيام، وليس لماذا يحدث التفكك والانهيار، فأقول: هب أن فئة في هذه الدولة أو تلك هيمنت عليها، وأقصت بقية الفئات بالقوة، ولنفترض أنها فئة قومية عربية. فإنها سرعان ما تأتي -أو تأتي أخيرا- برد فعل قومي مضاد؛ كردي أو أمازيغي مثلاً، فتنشأ القضية الكردية، أو القضية الأمازيغية، وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية -وبخاصة في هذا العصر- المؤدية لا محالة إلى التوتر، فالصراع، فالتمرد، فالحرب الأهلية، فتفكك الدولة العربية وانهيارها، ما أصرت الفئة المهيمنة على سياستها الإقصائية.
أما إذا كانت الفئة المهيمنة دينية، ولنفترض أنها إسلامية، فإنها سرعان ما تستدرج -أو تستدرج أخيرا- في مجتمع متعدد الأديان رد فعل ديني؛ مسيحي ماروني أو قبطي. فتنشأ القضية المسيحية المارونية أو القبطية، وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية المؤدية أيضا لا محالة إلى التوتر، فالصراع، فالتمرّد، فالحرب الأهلية، فتفكك الدولة وانهيارها، ما بقيت الفئة المهيمنة "راكبة رأسها". ويحدث الشيء نفسه إذا كانت الفئة المهيمنة سنية أو شيعية أو علوية، في مجتمع مختلط. وذات الأمر يقال إذا كانت الفئة المهيمنة عشائرية أو جهوية.
أما إذا كان الحكم دكتاتورياً بالفرد أو بالحزب، ولا يمثل الدكتاتور وزبانيته فئة معينة بل أنفسهم، فإن رد الفعل يكون شعبياً؛ فتنشأ قضايا الحرية، وسجناء الرأي، والعدالة، ومكافحة الفساد، وضمن المسار السابق ذاته المؤدي لا محالة -طال الزمن أو قصر- إلى التوتر، فالصراع، فالتمرد، فالثورة. وقد تتفكك الدولة بسقوط الدكتاتور ونظامه وتنهار، أو يحل محلها نظام ديمقراطي يقبل به الجميع.
ومع أن لكل فعل في المادة أو الفيزياء رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، إلا أن رد الفعل في حالة الصراع البشري قد يكون أكبر من الفعل بكثير؛ كمّاً وكيفاً. وأترك للقارئ فرصة استحضار الأمثلة، فهي كثيرة من الماضي والحاضر وأمام العيون.
في وضع من هذا النوع، تتفكك الدولة وتنفرط عراها، لأن الانتماء لها يتراجع لصالح الهويّات الفرعية عند الجميع؛ أي عند الفئة المهيمنة والفئات المحرومة أو المضطهدة كذلك. فالموظف العام، على كل مستوى، لا يرى نفسه ممثلا للدولة، بل لفئة، فيحرص في كل مرّة على معرفة هوية الآخر ليتخذ الموقف أو القرار في ضوء ذلك.
وبإمعان الفئة المهيمنة في التحكم وتغييب الدولة ومبدأ المواطنة، لصالحها، تكافح بقية الفئات -في البداية- من أجل إرساء هيبة الدولة وبسط سلطاتها على الجميع بالقانون والمساواة والعدل. وعندما لا تفلح في ذلك أو تيأس من تحقيقه، تتخلى عن الانتماء للدولة، لصالح الانتماء للفئة والولاء لزعيمها، منسجمة مع الفئة المهيمنة في ذلك. عند هذه المرحلة تفقد الدولة هيبتها ومرجعيتها، ويتراجع الإنتاج ويتدهور الاقتصاد، ويشتد الفساد، ويحتكم الناس إلى شريعة الغاب التي تتسلل بمرور الوقت إلى العقول، فالقلوب، فالأيدي، كما حصل أو هو حاصل الآن في أكثر من بلد عربي.
قد يبدو هذا التحليل بديهيا عند بعض الناس، ولكن الفئة المهيمنة تستبعده بغرور القوة، غير متعلمة من التاريخ البعيد أو الحاضر القريب، أي غير مستبقة للتطورات المؤدية للتفكك والانهيار بالتمسك بالمساواة والعدالة، وبالعودة إلى حكم الشعب لنفسه واختياره. وقد قيل إن التاريخ معلم جيد، ولكن يوجد دوما طلبة أغبياء يرسبون فيه.
اعتماد مبدأ المواطنة في إطار ديمقراطي علماني صحيح وموثوق، وقضاء مستقل وعادل، هو الحلّ أو المخرج أو سترة النجاة، والمظلة الواقية أو سفينة نوح، للجميع، أفلا يعقلون؟!