"من دهنه قليله"

ما تسرب من صفقة القرن التي يبشر بها جاريد كوشنر يعني أن الإدارة الأميركية ترى بأنه يمكن حل الصراع مرة وللأبد من خلال تقديم رشاوى للمعنيين مقابل التنازل عن الحقوق والمواقف المبدئية، فكل ما يحتاجه الأمر – وفقا لهذا التفكير الساذج – أن يتم توفير ما يقارب من خمسة وعشرين مليار دولار للضفة الغربية وأربعين مليار دولار تنفق على شكل استثمارات على مدار عشر سنوات في كل من الأردن ومصر وربما لبنان.اضافة اعلان
لغاية كتابة هذه السطور لم تنشر بنود الصفقة، فكل ما يطرح لا يتجاوز تعميمات وخطوطا عريضة، لكن هناك حقائق نعرفها جميعا، فمثلا القدس خارج المفاوضات ولا عودة لأي لاجئ لفلسطين، كما أن إسرائيل لن تتحمل المسؤولية الأخلاقية لميلاد مشكلة اللاجئين. بالإضافة لذلك لن تحترم الصفقة لا من قريب ولا من بعيد خط الرابع من حزيران وبالتالي ستضم إسرائيل الكتل الاستيطانية الكبرى ما يعني تناقص مساحة الأرض التي ستبقى للفلسطينيين.
في ذات السياق يمكن قراءة الصفقة – أو لنقل الصفعة – وكأن أميركا تريد أن يتخلى الجانب العربي عن الحقوق ويقوم هو أيضا بالتمويل! أو وفقا للمثل الشعبي الدارج "من دهنه قليله". لذلك جاءت جولة جاريد كوشنر الأخيرة في المنطقة من أجل الحصول على التأييد للجانب الاقتصادي من الخطة التي يقول بأنها ستحل الصراع بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. قراءة كوشنر للجانب العربي معقدة، فهو يستثمر منذ فترة في علاقات مع من يعتقد بأنهم قادرون على قيادة الجانب العربي للتوافق على صفقة، لكنه لم يفهم بعد قدرة الرأي العام على وضع قيود على ما يمكن أن يقوم به أي زعيم عربي إن فكرّ في الانسياق مع جهود كوشنر التي لا تهدف في نهاية المطاف إلا إلى خدمة المشروع الصهيوني التوسعي على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة.
بتقديري أن الذي شجّع كوشنر وغيره على التفكير في مثل هذه الأفكار الشيطانية هي جهات عربية عندما لم تعبر بشكل قاطع عن رفضها لأي توجهات تصفوية لقضية فلسطين، فهناك خطة سلام عربية اشترطت التطبيع مع إسرائيل بانسحابها من الأراضي التي تحتلها على أساس خط الرابع من حزيران، والتراجع عن هذا الموقف العربي هو من دفع كوشنر للتفكير في تصفية القضية على اعتبار أن قادة العرب هم من يحتاجون الولايات المتحدة وليس العكس.
لا يعقل مستوى التردي الذي وصل إليه الجانب العربي، فالتنافس والتنافر بين عدد من الأنظمة العربية أفضى إلى تراجع قضية فلسطين على سلم أولويات هذه الأنظمة، وهو أمر التقطه الجانبان الأميركي والإسرائيلي وعملا على تغذيته، وما محاولة توجيه الانتباه إلى إيران – "العدو" الاستراتيجي الجديد – لعل إسرائيل تبدو دولة طبيعية يمكن الاعتماد عليها في ترسيخ ركائز الأمن والاستقرار الإقليميين. هناك لقاءات عربية إسرائيلية بعضها تم تسريبه تكشف هذا الواقع المرّ.
ما عرض في قمة كامب ديفيد ورفضه الجانب الفلسطيني هو أفضل بكثير مما يُعرض اليوم، إلا أن الرئيس عرفات كان يعرف بأن هناك رأيا عاما فلسطينيا وعربيا لا يمكن تجاوزه، لكن للأسف هناك من يعتقد أن الشعوب ربما تزحف على بطونها بسبب التراجع والتردي في الوضع الاقتصادي، وعليه فإنه يمكن تقديم الرشاوى لكي تتوقف الشعوب عن معارضة أي تصفية للقضية الفلسطينية. لكن لنا أن نسأل إن كانت السياسات التي أفقرت البلاد والعباد في المنطقة كانت أيضا ضمن تصور مسبق لقتل روح المعارضة والرفض عن البشر! أكثر ما يغيظ في الأمر هو أن الجانب الأميركي يبحث عن أموال عربية لتمويل التنازل عن فلسطين!