صدم الوجدان وخلخلة الثوابت

لم أعتقد أن مقالي "أنا مع التطبيع" سيحرك شيئا في الوجدان، خصوصا بعد عقود كاملة من الخيبات التي أفرزت قناعات بانهيار منظومة المقاومة العربية؛ ثقافية وشعبية ومسلحة، وأننا وصلنا إلى شبه افتراضات أنه ما من أحد سيكون قادرا على استدعاء الحالة التي شكلتها فلسطين في الفضاء العربي على مدار ما يقرب من قرن.

اضافة اعلان


لكن يبدو أنني كنت مخطئا في هذا السياق، فقد أدى نشر المقال إلى إغضاب كثير من المحبين، وتلقيت اتصالات عديدة، ظن أصحابها لوهلة أنني، فعلا، مع التطبيع، أو أنني أروج له بأسلوب "متذاك"، وهو ظن خاطئ لا يثاب عليه أحد، فموقفي ثابت تجاه هذه الخيانة، وسأبقى أدين كل من يسلك طريقها. لكن، ربما جاء الاستنتاج كون كثيرين لم يستطيعوا قراءة الرسائل العديدة التي اشتمل عليها المقال، أو ربما، بسبب أسلوبي الكتابي الذي من الممكن أنه لم يتحل بالوضوح الكافي ليعبر عن مضمونه بما يكفل التلقي الذي لا يقبل التأويل.


من الجيد أن نعرف أن الموقف من نظام التطهير العرقي ما يزال يكتسب زخما في الشارع. لكن نشر المقال، كذلك، كشف عن أمر محبط، وهو ما يمكن أن نسميه هنا "انهيار السياق". في الوقت الذي اجتهدت فيه لتتبع حال العربي تجاه الآخر من منظور الصراع الوجودي، ورصد سريع لمراحل التغير العربي تجاه المحتل، متدرجا من الرفض للمقاومة للصمت للقبول، ثم للترحيب، وصولا إلى الترويج، لم ينتبه كثيرون إلا إلى جملة واحدة، وهي "أنا مع التطبيع"، وهي الجملة التي جاءت متبوعة بعلامة تعجب، وهو ما يضع على القارئ عبئا زائدا في تفسير هذا التعجب. إن الانتباه لها، فقط، ومحاولة جر الانتباه إليها من غير إخضاع المحتوى لقراءة ما يحاول قوله، يمثل انهيارا في سياق التلقي، ومحاولة جادة لإعادة التوجيه.


كنت أحب أن يتم الانتباه إلى التحولات الثقافية التي عبر عنها المقال، وإلى لامنطق التاريخ الذي يسير بنا اليوم إلى كسر كثير من الثوابت التي مثلت، ذات زمن، مقدسات لا يمكن القفز عنها.


في منطقتنا العربية، نعيش اليوم ليس مأزقا فحسب، بل تحديا وجوديا حقيقيا، يتمثل في نظام الفصل العنصري القائم في فلسطين، وهو نظام سرطاني يعمل على التمدد، سواء باحتلال الأرض أو احتلال القرار، ومهرجانات التطبيع المنتظرة، والتي يقال إنها سوف تتجاوز عشرة بلدان، ستمثل فرصة ذهبية لتسمين الاحتلال، ما سيمنحه فرصة لتجديد الدم، ومنحه مزيدا من الوقت فوق صدورنا.


امتلاك أدوات المقاومة، خصوصا الثقافية، سيمثل واحدا من البدايات المهمة التي من الممكن البناء عليها. ولن نستطيع تحقيق أي اختراق بالارتجال والخطب العصماء، وإنما بقراءة واعية للواقع الذي نعيشه، وبرصد القوى الفاعلة في المجتمع، واستثمار أدواتها. ومع ذلك، لا بأس من التأشير إلى أن العلاقة القائمة اليوم بين السلطة والجماهير لا تسمح ببناء منظومات مقاومة قوية، كما أن تراجع الحريات في جميع البلدان العربية لا بد سيسهم في تأخير بناء منظومة الوعي، والتي تعتبر أساسا في أي مشروع نهضوي مقبل. ولكن معرفة البداية دائما ما تكون حجر الزاوية.


تكمن أهمية كتابات أنطونيو غرامشي في أنها حاولت أن تدرس وتفهم الظروف الموضوعية وغير الموضوعية التي أدت إلى هزيمة الشيوعية في أوروبا الغربية، والتأسيس لوعي نخبوي يقود حركة مقاومة ثقافية بأدوات واضحة وفعالة. إنها محاولات لفهم الحراك المجتمعي بما فيه من قوى فاعلة وخاملة، واستثمار الأدوات المتاحة في هذا السياق، لذلك فهي قراءات لا تعتمد الصراخ للتعبير عن الموقف، ولا تلجأ إلى المداهنات، وإنما إلى إعادة قراءة التاريخ لوضع خارطة طريق للخروج من المأزق.


مقالي بالتأكيد، لم يكن اعترافا بالتطبيع ولا ترويجا له، إنه محاولة لصدم الوجدان وخلخلة الثوابت، وهو أيضا، دعوة إلى التفكير في الحال المزرية التي وصلنا إليها، ومحاولة بناء آليات مقاومة خاصة بنا.


موقفي من التطبيع لا يتغير ولا يتقادم، فهو خيانة وجريمة، ومرتكبوه هم أنداد أبو رغال وابن العلقمي.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا

ذات صلة
placeholder

آخر خرائط المنطقة

01 تشرين الأول 2023
placeholder

"جراثيم التعليم"

01 تشرين الأول 2023