باستهدافه وكالة الأمم المتحدة، الغرب يقف إلى جانب الإبادة الجماعية‏

عامل يحمل كيس دقيق في مركز توزيع الأغذية التابع للأمم المتحدة في مخيم الشاطئ، غزة، 2009 - ‏‏(أرشيفية)
عامل يحمل كيس دقيق في مركز توزيع الأغذية التابع للأمم المتحدة في مخيم الشاطئ، غزة، 2009 - ‏‏(أرشيفية)

مقدمة المترجم:

لطالما كانت "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (الأونروا) منظمة بالغة الأهمية بالنسبة للاجئين الفلسطينيين منذ إنشائها في العام 1949.

اضافة اعلان

 

وبغض النظر عن أسباب إنشائها والغايات التي كمنت وراءه، لعبت "الوكالة" دورًا وجوديًا في توثيق اللجوء الفلسطيني وتسجيل أجيال اللاجئين في وثائقها.


‏تم إنشاء (الأونروا) في أعقاب حرب استعمار الصهاينة لفلسطين في العام 1948، لتلبية احتياجات اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم العصابات الصهيونية بالمجازر والإرهاب.

 

وعلى مر السنين منذ ذلك الحين، عُنيت الوكالة بتوفير الخدمات الأساسية، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، لملايين اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن ولبنان وسورية.‏


‏اكتشف الكيان الصهيوني الاستعماري التوسعي العاكف على إلغاء الشعب الفلسطيني أنه متعارض جذريًا مع عمليات (الأونروا) وقيمتها القانونية والرمزية.

 

ونظر إلى الوكالة على أنها عقبة كأداء أمام إلغاء الفلسطينيين، باعتبار أن تركيزها على قضية اللاجئين يحافظ على تعريفهم الفريد الذي يسمح باعتبار أحفاد اللاجئين الأصليين من فلسطين لاجئين أيضًا.

 

ورأى أنصار الكيان أيضًا أن هذا النهج يختلف -غالبًا من دون قصد- عن المعايير المطبقة على مجموعات اللاجئين الأخرى على مستوى العالم، ويساهم في إدامة النضال الفلسطيني ضد الكيان. وما تزال المحاولات تُبذل لإخراج الشتات الفلسطيني من المعادلة باستبعاده من معادلة الصراع.‏


‏وبذلك، كان من أهم غايات استهداف وكالة الغوث إلغاء الحقوق التاريخية والقانونية للشعب الفلسطيني.‏

 

ويفترض أن يعني إلغاؤها إنهاء الحق التاريخي والقانوني للاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. وكانت الوكالة وما تزال لاعبًا مركزيًا في الدفاع عن حق العودة الذي يشكل جوهرًا أساسيًا في صراع الفلسطينيين مع الاستعمار الصهيوني.

 

ومن دون (الأونروا)، سوف يتضاءل تركيز المجتمع الدولي على محنة اللاجئين الفلسطينيين، ووضع المزيد من العراقيل أمام تأكيد مطالباتهم بحقهم في العودة.‏


‏وفي البعد العملي، يتوخى الكيان الصهيوني ومناصروه جعل الحياة صعبة لا تطاق على الفلسطينيين في كل مكان، وسوف يعني القضاء على (الأونروا) المزيد من تفاقم أزمة الفلسطينيين كشعب، خاصة وأن اللاجئين يشكلون الغالبية العظمى منهم، في الوطن والشتات.

 

ومع تقويض خدمات مثل التعليم والرعاية الصحية التي توفرها الوكالة، سوف تتدهور الظروف المعيشية للفلسطينيين ويُحرَمون من الفرص ويتحملون المزيد من الكلف. ‏


‏لم يمتثل الكيان الصهيوني في أي وقت للالتزامات القانونية المتعلقة بحقوق اللاجئين. لكن تفكيك (الأونروا) سيعفيه حتى من المسؤولية التي يتنصل منها أساسًا، في تجاهل مطلق للقانون الإنساني والدولي ومختلف قرارات الأمم المتحدة.

 

ومع الوضع بالغ الصعوبة الذي يعاني منه قطاع غزة الذي يتعرض حاليًا للتدمير المنهجي والتهجير والتجويع وكل عناصر الإبادة الجماعية، يُستخدم تقويض موارد وكالة الغوث كسلاح إبادة إضافي، ويضيف إلى جهود قتل الفلسطينيين بحرمانهم من الغذاء والخدمات الصحية وبقية المساعدات المنقذة للحياة.


بينما يرى العالم ما يحدث في غزة دقيقة بدقيقة وعلى الهواء مباشرة، لا تجد الدول التي تدّعي حماية حقوق الإنسان والحياة البشرية حرجًا في المساهمة بإبادة الفلسطينيين وإغلاق كل أبواب الحياة أمامهم بالتضييق على وكالة الغوث.

 

وهي تسوَّق ذلك باعتبار أنه "رسول الحضارة" و"عدو الظلامية" الصهيوني المتصل بحبل سري بأيدولوجيتها التفوقية الاستعمارية المتعالية؟

 

وبذلك، سوف يعمل تفكيك وكالة الغوث جيدًا لجهة قطع الفلسطينيين عن الجذور وتحويلهم إلى كيان هلامي بلا هوية، معلق في هواء العالم.

 

جوناثان كوك – (كونسورتيوم نيوز) 

 

‏ثمة خلفية مهمة لقرار الولايات المتحدة والدول الغربية البارزة الأخرى، ومن بينها المملكة المتحدة، القاضي ب‏‏تجميد تمويلها لـ"وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا)، القناة الرئيسية التي توزع الأمم المتحدة من خلالها خدمات الغذاء والرعاية الاجتماعية للفلسطينيين الأكثر بؤسًا وحرمانًا.‏


وتم فرض خفض التمويل –الذي تبنته أيضًا ألمانيا وفرنسا واليابان وسويسرا وكندا وهولندا وإيطاليا وأستراليا وفنلندا– على الرغم من أن "محكمة العدل الدولية" قضت يوم الجمعة، 26 كانون الثاني (يناير) بأن إسرائيل ربما ‏‏ترتكب جريمة الإبادة الجماعية‏‏ في غزة. ‏

 

‏في إعلان حيثيات القرار، اقتبس قضاة المحكمة الدولية ‏‏مطولاً عن‏‏ مسؤولين في الأمم المتحدة تحذيراتهم من أن تصرفات إسرائيل تركت كل سكان القطاع البالغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة تقريبًا على شفا كارثة إنسانية، بما في ذلك خطر المجاعة.‏


كانت ذريعة الغرب الواهية لتبرير ما يرقى إلى شن حرب على (الأونروا) هي أن إسرائيل تدعي لأن 12 موظفًا محليًا في الأمم المتحدة -من أصل 13.000 موظف- متورطون في هروب "حماس" من سجن غزة المفتوح في 7 تشرين الأول (أكتوبر). ويبدو أن الدليل الوحيد على ذلك هو اعترافات منتزعة بالإكراه، يرجح أنها انتزعت تحت التعذيب الوحشي، من مقاتلين فلسطينيين أسرتهم إسرائيل في ذلك اليوم.‏


‏وقد أقالت الأمم المتحدة على الفور جميع الموظفين المتهمين، على ما يبدو من دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.

 

ويمكننا أن نفترض أن السبب في ذلك هو أن "الوكالة" خشيت أن يتعرض شريان الحياة الضعيف مسبقًا الذي تمد به سكان غزة، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين الفلسطينيين الآخرين في جميع أنحاء المنطقة –في الضفة الغربية ولبنان والأردن وسورية– لمزيد من التهديد.

 

وما كان ينبغي أن تقلق. لقد قطعت الدول الغربية المانحة تمويلها على أي حال، مما أغرق غزة في كارثة حقيقية.‏


وقد فعلت ذلك بغض النظر عن حقيقة أن قرارها يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي، حيث يواجه حوالي 2.3 مليون فلسطيني في غزة المجاعة وانتشار الأمراض الفتاكة، في حين أن 4 ملايين لاجئ فلسطيني آخرين في جميع أنحاء المنطقة معرضون لخطر وشيك بفقدان الغذاء والرعاية الصحية والتعليم.‏


‏وفقًا لأستاذ القانون فرانسيس بويل، الذي كان قد رفع قضية إبادة جماعية لصالح البوسنة في المحكمة الدولية قبل حوالي عقدين من الزمن، فإن ذلك يحول معظم هذه الدول الغربية من تواطؤها الحالي مع الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل (من خلال بيع الأسلحة وتقديم المساعدات والغطاء الدبلوماسي) إلى ‏‏المشاركة المباشرة والنشطة في الإبادة الجماعية‏‏ من خلال انتهاك حظر اتفاقية الإبادة الجماعية للعام 1948 لـ"إخضاع المجموعة عمدًا [للفلسطينيين في هذه الحالة] لظروف حياة يُقصد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا".‏


الآن، تحقق المحكمة الدولية مع إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية. لكنها يمكن أن توسع تحقيقاتها بسهولة لتشمل الدول الغربية. ولا بد من النظر إلى التهديد الذي تتعرض له (الأونروا) في ضوء ذلك.


‏ولا يقتصر الأمر على أن إسرائيل تتجاهل المحكمة الدولية والقانون الدولي، بل إن دولاً مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تفعل ذلك أيضًا، من خلال قطع تمويلها للوكالة المعنية بمساعدة اللاجئين.

 

وهي بذلك تصفع المحكمة على وجهها، وتشير إلى أنها تقف بحزم وإصرار وراء جرائم إسرائيل، حتى لو ثبت أن هذه الجرائم هي إبادة جماعية بطبيعتها.‏


صنيعة إسرائيل

 


‏يَعرض ما يلي السياق الحقيقي والمناسب لفهم ما يجري حقًا في هذا الهجوم الأخير على (الأونروا):‏
1. تم إنشاء هذه الوكالة في العام 1949 –قبل عقود من المذبحة العسكرية الإسرائيلية الجارية حاليًا في غزة –من أجل توفير الاحتياجات الأساسية للاجئين الفلسطينيين، بما في ذلك توفير الغذاء الأساسي والرعاية الصحية والتعليم.

 

وتلعب الوكالة دورًا كبيرًا بشكل خاص في غزة لأن معظم الفلسطينيين الذين يعيشون هناك فقدوا، أو ينحدرون من عائلات فقدت كل شيء في العام 1948. ‏


كان ذلك عندما تم ‏‏تطهيرهم عرقيًا‏‏ على يد الجيش الإسرائيلي الوليد من معظم فلسطين، في حدث معروف للفلسطينيين باسم النكبة، أو الكارثة. وتحولت أراضيهم إلى ما وصفه قادة إسرائيل بأنه "دولة يهودية" حصرية. ‏


وعكف الجيش الإسرائيلي على تدمير مدن وقرى الفلسطينيين داخل هذه الدولة الجديدة حتى لا يتمكنوا من العودة إليها أبدًا.‏


2. و(الأونروا) منفصلة عن "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، وهي تتعامل فقط مع اللاجئين الفلسطينيين. وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تريدك أن تعرف ذلك، فإن سبب وجود وكالتين للاجئين تابعتين للأمم المتحدة هو أن إسرائيل وداعميها الغربيين أصروا على هذا التقسيم في العام 1948.

 

لماذا؟ لأن إسرائيل كانت تخشى وقوع الفلسطينيين تحت مسؤولية سلف "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، التي كانت تسمى "‏‏المنظمة الدولية للاجئين"‏‏.

 

وقد تأسست "المنظمة الدولية للاجئين" في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، في جزء كبير منه للتعامل مع ملايين اليهود الأوروبيين الفارين من الفظائع النازية.‏


ولم ترِد إسرائيل أن يتم التعامل مع الحالتين على أنهما قابلتان للمقارنة، لأنها كانت تضغط بشدة من أجل توطين اللاجئين اليهود في الأراضي التي طردت منها الفلسطينيين للتو.

 

وكان جزء من مهمة "المنظمة الدولية للاجئين" هو السعي إلى إعادة اليهود الأوروبيين إلى أوطانهم. وكانت إسرائيل قلقة من أن المبدأ نفسه قد يستخدم لحرمانها من اليهود الذين أرادتهم لاستعمار الأراضي الفلسطينية وإجبارها على السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم السابقة.

 

وهكذا، بالمعنى الحقيقي للعبارة، كانت (الأونروا) صنيعة إسرائيل: وقد تم إنشاؤها لإبقاء الفلسطينيين قضية وحدهم؛ حالة شاذة.‏


معسكر اعتقال‏

 


3. ومع ذلك، لم تسر الأمور مع إسرائيل بالضبط وفقًا للخطة. نظرًا لرفضها السماح للاجئين بالعودة، وإحجام الدول العربية المجاورة عن التواطؤ في عمل إسرائيل الأصلي المتمثل في التطهير العرقي، تضخم عدد السكان الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين التابعة لـ(الأونروا). ‏


‏وقد أصبحوا مشكلة خاصة في غزة، حيث حوالي ثلثي السكان لاجئون أو ينحدرون من لاجئين. ولم يكن لدى الجيب الساحلي الصغير الأرض أو الموارد اللازمة للتعامل مع الأعداد المتزايدة بسرعة هناك.

 

وكان مكمن الخوف في إسرائيل هو أنه مع ازدياد محنة الفلسطينيين في غزة بحيث تصبح أكثر يأسًا، سوف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل من أجل التوصل إلى اتفاق سلام، والذي يسمح بعودة اللاجئين إلى ديارهم السابقة.‏


‏وكان لا بد من وقف ذلك بأي ثمن. في أوائل تسعينيات القرن العشرين، عندما تم الكشف عن "عملية السلام" المفترضة في أوسلو، بدأت إسرائيل في وضع فلسطينيي غزة داخل قفص فولاذي، محاط بالأبراج والنبادق. ‏


‏قبل نحو 17 عامًا، فرضت إسرائيل حصارًا حال دون حركة السكان من غزة وإليها، بما في ذلك عن طريق المياه الساحلية للقطاع وسمائه. وأصبح الفلسطينيون سجناء في معسكر اعتقال عملاق، ‏‏محرومين‏‏ من أبسط الروابط مع العالم الخارجي.

 

وكانت إسرائيل وحدها هي التي تقرر ما يُسمح بدخوله القطاع والخروج منه. وعلمت محكمة إسرائيلية في وقت لاحق أنه منذ العام 2008 فصاعدًا وضع الجيش الإسرائيلي غزة على ما يرقى إلى ‏‏نظام غذائي للتجويع‏‏ من خلال تقييد الإمدادات الغذائية.‏


‏كانت هناك استراتيجية هنا تنطوي على جعل غزة ‏‏غير صالحة للسكن‏‏، وهو أمر بدأت الأمم المتحدة في التحذير منه في العام 2015.

 

ويبدو أن خطة اللعبة الإسرائيلية قد سارت على نحو يشبه ما يلي: ‏


‏من خلال جعل الفلسطينيين في غزة أكثر يأسًا باطراد، كان من المؤكد أن الجماعات المسلحة مثل حماس المستعدة للقتال لتحرير القطاع ستكتسب شعبية.

 

وسوف يوفر هذا بدوره لإسرائيل ذريعة لتشديد القيود على غزة بحجة التعامل مع "تهديد إرهابي"، وتدمير غزة بشكل متقطع في إطار "الانتقام" من تلك الهجمات –أو ما أسماه القادة العسكريون الإسرائيليون بأسماء مختلفة، مثل‏‏ "‏‏جز العشب‏‏" ‏‏و"‏‏إعادة غزة إلى العصر الحجري‏‏". 


كان الافتراض هو أن الجماعات المسلحة في غزة سوف تستنفد طاقاتها في إدارة "الأزمات الإنسانية" المستمرة التي هندستها إسرائيل.‏


‏وفي الوقت نفسه، يمكن لإسرائيل أن تروج روايتين توأمين. يمكنها أن تقول على الملأ أنه كان من المستحيل عليها أن تتحمل المسؤولية عن سكان غزة، بالنظر إلى أنهم منخرطون بشكل واضح في كل من كراهية اليهود والإرهاب.

 

وفي الوقت نفسه، سوف تخبر المجتمع الدولي في الاجتماعات الخاصة بأنه بالنظر إلى كيف أصبحت غزة غير صالحة للسكن، فإن هذا المجتمع في حاجة ماسة إلى إيجاد حل لا يشمل إسرائيل.

 

وكان الأمل هو أن تكون واشنطن قادرة على ‏‏لي ذراع أو رشوة‏‏ مصر المجاورة لاستيعاب معظم سكان غزة المعوزين.‏


سقوط القناع‏

 


‏4. وفي 7 تشرين الأول (أكتوبر)، حققت "حماس" وجماعات فلسطينية مسلحة أخرى ما افترضت إسرائيل أنه مستحيل. خرج المقاتلون من معسكر اعتقالهم. ولم تكن صدمة القيادة الإسرائيلية ناجمة عن الطبيعة الدموية للهروب فحسب.

 

في ذلك اليوم حطمت "حماس" مفهوم الأمن الإسرائيلي بالكامل –وهو مفهوم مصمم لإبقاء الفلسطينيين محطمين، والدول العربية وجماعات المقاومة الأخرى في المنطقة بلا حول ولا قوة. ‏


‏في الأسبوع الماضي، وفي ضربة قاضية، وافقت "محكمة العدل الدولية" على محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، مما أدى إلى انهيار القضية الأخلاقية لإقامة دولة يهودية حصرية مبنية على أنقاض وطن الفلسطينيين.‏


ينبغي أن يفرض استنتاج القضاة بشبه إجماع على أن جنوب أفريقيا قدمت حجة معقولة لارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية إعادة تقييم لكل ما حدث من قبل. إن الإبادة الجماعية لا تنشأ فقط من فراغ. إنها تحدث بعد فترات طويلة تقوم فيها الجماعة التي تمارس الاضطهاد بتجريد جماعة أخرى من إنسانيتها، وتحرّض ضدها وتسيء معاملتها. ‏


‏وقد اعترفت المحكمة الدولية ضمنيُا بأن الفلسطينيين كانوا على حق عندما أصروا على أن النكبة –عملية الطرد والمصادرة والتطهير العرقي التي قامت بها إسرائيل ضدهم في العام 1948– لم تنته أبدًا، وإنما اتخذت أشكالاً مختلفة فقط. لقد أصبحت إسرائيل أفضل في إخفاء تلك الجرائم، حتى تم نزع القناع عنها بعد اندلاع الحرب في 7 تشرين الأول (أكتوبر).‏


5. إن جهود إسرائيل للتخلص من (الأونروا) ليست جديدة. إنها قديمة ويعود تاريخها إلى سنوات عديدة. ولعدد من الأسباب، تشكل وكالة الأمم المتحدة للاجئين شوكة في خاصرة إسرائيل، وهي كذلك أكثر ما يكون في غزة. ‏


فقد وفرت –على الأقل- شريان حياة للفلسطينيين هناك، وحافظت على إطعامهم ورعايتهم، ووفرت فرص عمل لعدة آلاف من السكان المحليين في مكان تعد فيه معدلات البطالة من بين أعلى المعدلات في العالم. ‏


‏وقد استثمرت في البنية التحتية مثل المستشفيات والمدارس التي تجعل الحياة في غزة أكثر احتمالاً، عندما كان هدف إسرائيل منذ فترة طويلة هو جعل القطاع مكانًا غير صالح للسكن.

 

وتقوم مدارس (الأونروا) التي تدار بشكل جيد، ويعمل بها فلسطينيون محليون، بتعليم الأطفال تاريخهم الخاص، وعن المكان الذي عاش فيه أجدادهم ذات يوم، وعن حملة إسرائيل لنزع الملكية والتطهير العرقي ضدهم.

 

وهذا يتعارض بشكل مباشر مع الشعار الصهيوني سيئ السمعة حول مستقبل الفلسطينيين بلا هوية: "كبار السن سيموتون والشباب ينسون".‏


‏فرق تسد‏

 


‏لكن دور (الأونروا) أكبر من ذلك. إنها، وبشكل فريد، الوكالة الوحيدة التي توحد الفلسطينيين أينما كانوا، حتى عندما تفصلهم الحدود الوطنية وتجزئة إسرائيل للأراضي التي تسيطر عليها. 


تجمع (الأونروا) الفلسطينيين معًا حتى عندما يتم التلاعب بقادتهم السياسيين واستغلالهم ودفعهم إلى انقسامات وفصائلية لا نهاية لها من خلال سياسات فرق تسد الإسرائيلية: "حماس" هي المسؤولة اسميا في غزة، في حين تتظاهر حركة "فتح" بقيادة محمود عباس بأنها تدير الضفة الغربية.‏


‏وبالإضافة إلى ذلك، تحافظ (الأونروا) على القضية الأخلاقية المتمثلة في حق الفلسطينيين في العودة –وهو مبدأ معترف به في القانون الدولي، ولكنَّ الدول الغربية تجاهلته وتخلت عنه منذ فترة طويلة.‏


وحتى قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أصبحت (الأونروا) عقبة تحتاج إلى الإزالة من الطريق إذا ما أرادت إسرائيل تطهير غزة عرقيًا. ولهذا السبب ضغطت إسرائيل مرارًا وتكرارًا لوقف تمويل أكبر المانحين، وخاصة الولايات المتحدة، لـ(الأونروا). ‏


‏6. والآن أصبحت إسرائيل في مزاج الهجوم الكامل على محكمة العدل الدولية، بل وأصبح لديها ما تكسبه من تدمير (الأونروا) أكثر مما كانت لتكسبه من قبل. إن تجميد التمويل، وزيادة إضعاف وكالة اللاجئين، سيقوض هياكل الدعم للفلسطينيين بشكل عام.

 

لكن هذه الخطوة ستؤدي، في حالة غزة على وجه التحديد إلى تسريع المجاعة والمرض، مما يجعل القطاع غير صالح للسكن بشكل أسرع.‏


لكنها ستفعل أكثر من ذلك. سوف تكون أيضًا بمثابة عصا يتم بها ضرب المحكمة الدولية في الوقت الذي تحاول فيه إسرائيل محاربة وإبعاد التحقيق في جريمة الإبادة الجماعية.

 

وكان ادعاء إسرائيل المغطى بالكاد هو أن 15 من قضاة محكمة العدل الدولية البالغ عددهم 17 قاضيًا انحازوا إلى حجة جنوب أفريقيا المعادية للسامية بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية. ‏


وقد اقتبست المحكمة باستفاضة تصريحات مسؤولين في الأمم المتحدة، بمن فيهم رئيس (الأونروا)، أن إسرائيل كانت تخطط بنشاط لإحداث أزمة إنسانية غير مسبوقة في غزة.

 

والآن، وكما يشير السفير البريطاني السابق كريغ موراي‏‏، ‏‏فإن الاعترافات المنتزعة بالإكراه ضد 12 من موظفي الأونروا تعمل على "تقديم رواية دعائية مضادة لحكم محكمة العدل الدولية، وتقلل من مصداقية أدلة (الأونروا) أمام المحكمة".‏


‏وبشكل غير عادي، قامت وسائل الإعلام الغربية بعمل العلاقات العامة لإسرائيل نيابة عنها، وركزت بسعادة على مزاعم إسرائيل حول حفنة من موظفي (الأونروا) أكثر مما ركزت على قرار المحكمة الدولية بتقديم إسرائيل للمحاكمة بتهمة الإبادة الجماعية.‏


‏ومن النعم أيضًا بالنسبة لإسرائيل أن الدول الغربية الرائدة سرعان ما علقت ألوانها على الصاري. ويعزز تجميد التمويل ربط مصيرها بمصير إسرائيل. وهو يبعث برسالة مفادها أنها ستقف مع إسرائيل ضد المحكمة الدولية، مهما كان ما تقرره. 


‏إن حربهم على (الأونروا) تهدف إلى أن تكون عملاً من أعمال الترهيب الجماعي الموجه نحو المحكمة.

 

وهي علامة على أن الغرب يرفض قبول أن ينطبق القانون الدولي عليه، أو على الدولة العميلة له. إنها تذكير بأن الدول الغربية ترفض وضع أي قيود على حريتها في العمل –وأن إسرائيل ورعاتها هم الدول المارقة الحقيقية.‏



أطفال مدارس فلسطينيون في مدرسة غزة الابتدائية التابعة للأونروا، مدينة غزة، أيار (مايو) 2010 -‏‏(المصدر)

 


‏*جوناثان كوك Jonathan Cook: صحفي بريطاني حائز على جوائز. كان مقيما في الناصرة، إسرائيل، لمدة 20 عاما. عاد إلى المملكة المتحدة في العام 2021، وهو مؤلف ثلاثة كتب عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني‏‏: "‏‏الدم والدين: كشف القناع عن الدولة اليهودية Blood and Religion: The Unmasking of the Jewish State (2006)، "‏‏إسرائيل وصراع الحضارات: العراق وإيران وخطة إعادة تشكيل الشرق الأوسط"‏‏ (2008) Israel and the Clash of Civilisations: Iraq, Iran and the Plan to Remake the Middle East ‏‏و"فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في اليأس البشري"‏‏ (2008) Disappearing Palestine: Israel’s Experiments in Human Despair.


*نشر هذا المقال تحت عنوان: By Hurting UN Agency, the West Sides With Genocide

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

هل يجوز الحديث عن إبادة جماعية في غزة؟

قضية جنوب أفريقيا ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية‏

 

 


‏لاجئون فلسطينيون في رفح، جنوب فلسطين خلال النكبة، 1948 ‏‏- (أرشيفية)‏