بعد 20 عاما، كيف يرى العراقيون الحياة بعد سقوط نظام صدام

منقذ داغر* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 19 آذار (مارس) 2023 بعد عقدين من سقوط نظام صدام حسين، أظهرت نتائج استطلاعات الرأي العام أن الإحباط واسع النطاق من الوضع الراهن في العراق دفع عددًا متزايدًا من العراقيين إلى التعبير عن وجهات نظر سلبية تجاه الحياة في حقبة ما بعد صدام. * * مثل كل العراقيين، أكملت في مثل هذه الأيام قبل عشرين عاماً آخر استعداداتي الأسرية لمواجهة الحرب الطاحنة المتوقعة، بعد أن بات جلياً أن آمال عدم نشوب الحرب لم تكن سوى أحلام غير واقعية. أخذتُ عائلتي للسكن في منطقة أكثر أمناً بعد أن قمنا بتخزين كمية من المواد الغذائية والمياه. ثم دوت صفارات الانذار، وانقطعت الكهرباء وبدأت أصوات الانفجارات تهز بيتنا البديل بشدة وتحيل سماء بغداد إلى مهرجان من الألعاب النارية المميتة. ومع تصاعد أصوات الفزع من أطفالي، كان همي الرئيس هو تهدئة روعهم وجعلهم يصدقون كذبتي بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ولم تمض سوى أسابيع ثلاثة حتى أصبحنا متيقنين من أن العراق قد أحتُلّ، وأن فصلاً جديداً في حياتنا قد بدأ. ومع ذلك، بدا رد الفعل الشعبي العراقي الواضح على هذا الواقع مثيراً للحيرة، كانت معظم الأخبار التي أسمعها من راديو الترانزستور الصغير الذي كان نافذتي على العالم تشير أن العراقيين فرحون بإسقاط نظام صدام، ومبتهجون بقدوم عهد جديد من الديمقراطية والحرية والرفاه، يجعل العراق الولاية الأميركية الحادية والخمسين. جعلتني تلك الاخبار التي تلقيتها أتساءل: لماذا لم أكن مبتهجاً مثل باقي العراقيين الذين تشير أليهم أخبار المذياع؟ هل أنا مختلف، أم أن هناك جانبًا آخر للرأي العام لم يقُلهُ لنا المذياع؟ كنت بالصدفة أقرأ حينذاك أحد الكتب التي تتحدث عن تأثير الرأي العام وكيفية قياسه. وقلت في نفسي: ربما لو استطعت أن أسأل العراقيين عن رأيهم في ما حدث، فإننا سأتمكن حينها من حل التناقض الذي تملكني ما بين الأخبار المتدفقة عن فرح العراقيين وغبطتهم بالاحتلال، ورؤيتي المتشائمة لما حصل وما سيحصل لاحقاً. أقنعت أصدقائي وبعض طلابي بالقيام بأول استطلاع للرأي العام (في بغداد فقط). وبعد أقل من ثلاثة أسابيع على الاحتلال كانت الاجابة جاهزة عندي، لكنها لم تزدني إلى حيرة على حيرتي، وقلقًا على قلقي. أشارت نتائج الاستطلاع إلى أن هناك انقسامًا واضحًا في رأي أهل بغداد، حيث يعتقد 49 في المائة منهم أن ما حصل كان شيء جيدًا لهم، مقابل 47 في المائة كانوا يتفقون معي على أن ما حصل كان شيئًا سيئًا. وحين أدركت أن المواقف منقسمة بالتساوي تقريبًا، زادت حيرتي، وزاد شغفي بالتعرف على مزيد من رأي العراقيين. وكنت آمل من خلال الاستطلاع اللاحق أن أسألهم عن سبب هذا التباين في آرائهم لدرجة أنى تركت مهنتي كأستاذ جامعي وكرست كل حياتي المتبقية لسبر أغوار الرأي العام العراقي الذي تغير دراماتيكياً خلال العشرين سنة الماضية وبشكل مثير. تأتي الذكرى العشرون للاحتلال لتحفز العودة إلى سؤال العراقيين بعضًا من نفس الأسئلة التي التي كنتُ قد سألتها في السنوات الأولى بعد 2003، لرسم صورة أكثر وضوحاً لكيفية التغيير الذي طرأ على رأى العراقيين. ولذلك أجرت مجموعتي البحثية (المستقلة للأبحاث) بالتعاون مع شركة الأبحاث البريطانية ORB وهيئة الإذاعة البريطانية BBC في نهاية شباط (فبراير) 2023 استطلاعاً للرأي العام لعينة وطنية شملت 2.300 مقابلة أجريت وجهاً لوجه باستخدام الحاسوب وبأسلوب المعاينة العشوائية الاحتمالية الطبقية النسبية PPS. على الرغم من أن المقارنة مع أول استطلاع للرأي ليست دقيقة علمياً لأن ذاك الاستطلاع جرى بمنهجية بدائية واقتصر على ببغداد فقط، إلا أن من المثير أن نعرف أن نسبة العراقيين الذين يقولون أن “دخول قوات التحالف في 2003” كان جيداً لهم، لم تتجاوز اليوم بعد 20 سنة 35 في المائة فقط، وغالبيتهم من الأكراد. أما نسبة العرب (شيعة وسنة) ممن يقولون أن ما حصل كان جيداً لهم ببحدود 29 في المائة فقط، مقابل أكثر من ثلثي العراقيين ككل الذين يرون اليوم أن ما حصل في العام 2003 كان سيئًا لهم. وقد أظهرت هذه النتيجة انقلابًا واضحًا في الرأي العام العراقي. أما السؤال الأكثر أثارة فكان: “هل تعتقد، بشكل عام، أن الأمور أفضل لك الآن في ظل النظام السياسي الحالي، أم أنها كانت أفضل خلال نظام صدام حسين؟ عندما طرحنا هذا السؤال لأول مرة في العام 2005، أجاب 67 في المائة معظمهم من الأكراد والشيعة أن حياتهم في العام 2005 كانت أفضل مما كانت عليه خلال نظام صدام، وذلك على الرغم من أن الأوضاع الأمنية كانت غير مستقرة آنذاك. أما اليوم، فقد حصل تغيير كبير في الرأي العام بخصوص هذا السؤال. لقد تدنت نسبة من يقولون أن حياتهم الآن أفضل مما كانت عليه في النظام السابق إلى 31 في المائة فقط، في حين قفزت نسبة من يقولون أنها كانت أفضل في النظام السابق إلى 36 في المائة، وقال ثلث العراقيين (33 في المائة) أنها بنفس السوء الذي كانت عليه في النظام السابق. بمعنى أن أقل من ثلث العراقيين فقط يقولون أن حياتهم اليوم أفضل مما كانت عليه خلال النظام السابق. لعل أكثر ما يشد الانتباه في هذه الأرقام الحديثة أنه، وبعكس الانطباع الذي قد يكون سائداً، فإن التغير الكبير في نسب الرأي العام هذه لم تحصل في منطقة واحدة فقط ولا لدى مجموعة أثنو-طائفية واحدة. فعلى الرغم من أن غالبية من يقولون أن وضعهم كان أفضل في النظام السابق هم من السنة وبنسبة 48 في المائة، الا أن نسبة الشيعة الذين يقولون أن وضعهم كان أفضل في النظام السابق أصبحت 33 في المائة، وهي أعلى من نسبة الشيعة الذين يقولون إنها أفضل في النظام الحالي. وفي الوقت الذي قال فيه 38 في المائة منهم إنها بنفس السوء الذي كانت عليه في النظام السابق، فإن نسبة الشيعة الذين قالوا إن حياتهم اليوم أفضل لم تتجاوز 29 في المائة فقط! وحتى بين الأكراد، اختلفت النسب كلياً عما كانت عليه في استطلاع العام 2005. فعلى الرغم من أن هناك 63 في المائة منهم يقولون إن حياتهم اليوم أفضل، إلا أن هناك أكثر من 20 في المائة من الأكراد ممن يقولون إن وضعهم كان أفضل في ظل النظام السابق، و16 في المائة يقولون إنها بذات السوء الذي كانت عليه إبان النظام السابق. ينبغي التنبيه هنا إلى نقطة مهمة، وهي أن هذه النتائج لا تعكس بالضرورة حنينًا إلى النظام السابق بقدر ما تعكس رفضًا للنظام الحالي وللأوضاع العامة في العراق اليوم. والدليل على ذلك هو أن غالبية من قالوا إن أوضاعهم كانت أفضل إبان النظام السابق، سواء من الشيعة أو الأكراد، هم من الفئات العمرية الأقل من 30 سنة، أي الذين لم يعيشوا أو لم يكونوا واعين للأوضاع قبل العام 2003، وبالتالي لا تعكس إجاباتهم واقعياً رأيهم في النظام السابق بقدر ما تعكس سخطهم من الوضع الحالي. تؤشر الأرقام الحالية على حالة إحباط وخيبة أمل واضحين للرأي العام العراقي تجاه نظام وطريقة الحكم في العراق. وقد أصبحت نسبة الذين يقولون أن الأوضاع في العراق أصبحت أفضل مما كانت عليه في ظل النظام السابق بحدود 40 في المائة فقط، في مقابل 59 في المائة يقولون أن الأوضاع ساءت. وهذه الأرقام تعكس الأزمة الراهنة التي يعيشها النظام السياسي في العراق والتي تحتاج إلى مراجعة كل الإخفاقات التي جعلت الكثير من العراقيين يحنون إلى الماضي -ليس حباً فيه، وإنما نكايةً بالنظام الحالي. وقالت إحدى العجائز العراقيات عندما قابلها مذيع تلفزيوني إن “خطايا النظام الحالي هي التي بيّضت وجه النظام السابق”، وهو أفضل تلخيص لما جرى في العراق – ووجهة نظر أظهرها بوضوح استطلاع الرأي العام الأخير. *د. منقذ داغر: مدير قسم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعضو مجلس إدارة مؤسسة غالوب الدولية. وهو أيضًا مؤلف “العراق من الاحتلال إلى الاعتلال: دراسة توثيقية للرأي العام في العراق منذ 2003”. اقرأ أيضا في ترجمات
اضافة اعلان