كل إمبراطورية إلى زوال

الرئيس جو بايدن ينزل في مهبط طائرات في هيروشيما، بعد اجتماعات السبعة الكبار – (المصدر)‏
الرئيس جو بايدن ينزل في مهبط طائرات في هيروشيما، بعد اجتماعات السبعة الكبار – (المصدر)‏

‏ويلمر ج. ليون – (كونسورتيوم نيوز) 2023/8/18


‏كل إمبراطورية ستسقط، والفكرة الخيالية عن الاستثنائية الأميركية لا تعفي الولايات المتحدة من هذا المصير. ومع ذلك، تتصرف القوة المهيمنة وهي في طور السقوط كما لو أنها ما تزال تسيطر على الأحداث، لكنها تخلق بدلا من ذلك خطرا عالميا.‏

                        *   *   *‏
‏"نحن إمبراطورية الآن، وعندما نتصرف، فإننا نخلق واقعنا الخاص. بينما تدرسُون هذا الواقع -بحكمة، كما ستفعلون- سوف نتصرف مرة أخرى، ونخلق حقائق جديدة أخرى، والتي يمكنكم دراستها أيضًا، هذه هي الطريقة التي تجري عليها الأمور. نحن ممثلو التاريخ... وسوف تترَكون أنتم، أنتم جميعا لتدرسوا ما نفعله فقط". ‏
-كارل روف، 2004‏

في معظم الروايات، كان كارل روف** محقا بشأن الإمبراطورية الأميركية. قبل تسعة عشر عامًا، كان لدى أميركا أقوى جيش في العالم، لكن اقتصادها كان يُظهر علامات الضعف. ومرة أخرى في آذار (مارس) من العام 2000، انفجرت فقاعة سوق الأسهم، مما أدى إلى انهيار "ناسداك"، أو انهيار "فقاعة دوت كوم". ومع ذلك صدّق معظم الناس في البلد في ذلك الوقت الرئيس السابق رونالد ريغان عندما أشار إلى أميركا على أنها "المدينة المشرقة على تل". ‏و‏بسبب قوتها العسكرية، تمكنت أميركا من عرض قوتها وفرض إرادتها على العالم.‏

اضافة اعلان


يشكل تأكيد روف المتغطرس في قوله "... عندما نتصرف، فإننا نخلق واقعنا الخاص ..." جزءا رئيسيا من المشكلة التي تواجهها الإمبراطورية الأميركية اليوم. ولعل العنصر المفقود في هذا التقييم هو الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن جميع الإمبراطوريات لا بد أن تستنفد مساراتها في نهاية المطاف. وتحكي الإمبراطوريات الأوروبية، واليونانية، والرومانية والبريطانية قصص النهايات المأساوية.

 

وكان العامل المشترك والمهم في زوال هذه الإمبراطوريا جميعًا هو الغطرسة. بدلاً من الاعتراف بتغير الديناميات العالمية والمشهد الجيوسياسي والعمل على إجراء التعديلات المطلوبة، اعتقدت أن بإمكانها إدارة العالم بالقوة المطلقة واستعراض العضلات والإرادة.‏
‏وقد أصبحت أميركا معميّة بغطرستها، وغير قادرة على تقييم الحقائق الماثلة كما ينبغي. وما تزال أميركا تعتقد أنها المهيمن الوحيد، بينما تؤدي العديد من أفعالها الأخيرة إلى مفاقمة زوالها.‏


‏في العام 1991، أعلن الرئيس جورج بوش الأب عن "نظام عالمي جديد" كان يعتقد أنه سيستبدل السياسة ثنائية القطبية في حقبة الحرب الباردة بنظام أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة. ‏وحدد ابنه، جورج دبليو بوش -بينما كان ما يزال حاكما لولاية تكساس لكنه يترشح للرئاسة- مبادئ السياسة الخارجية التي سوف توجه رئاسته، واعدا بـ"أممية أميركية واضحة" مرة أخرى، وهي ليست لغة رمزية بالضبط لوصف نظام أميركي أحادي القطب.‏


‏وفي الآونة الأخيرة، يواصل وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ومسؤولون آخرون في إدارة بايدن مناقشة إقامة "نظام قائم على القواعد". ويبدو أنهم الوحيدون الذين يعرفون ما هي هذه القواعد.‏


ما تزال الولايات المتحدة تواصل عرضَ نفسها كقوة موحِّدة في ما يبرز كعالَم متعدد الأقطاب. في رواية، "الشمس تشرق أيضًأ" ‏‏The Sun Also Rises‏‏، يطرح بيل غورتون، شخصية إرنست همنغواي، سؤالا على مايك كامبل: "كيف أصبحت مفلسًا"؟ ويجيب مايك: "بطريقتين... تدريجيًا ثم فجأة".‏


‏والآن، أصبحت هيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب مفلسة وتقترب من نهايتها. ‏‏في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2020، كنتُ قد نشرتُ مقالاً بعنوان "‏‏إعادة تنظيم دول عدم الانحياز‏‏"، وكتبتُ فيه:
"مع خروج الولايات المتحدة من حقبة ما بعد الحرب الباردة كقوة عالمية مهيمنة وحيدة، أصبح من الصعب بشكل متزايد على الدول الحفاظ على سيادتها ومحاربة عدم المساواة في النظام الاقتصادي ’العالمي الجديد‘ الذي فرضته عليها الولايات المتحدة. ثمة حملة ’الضغط الأقصى‘ التي تشنها الولايات المتحدة، المكونة من فرض العقوبات وتغيير النظام كسلاح للحرب الاقتصادية ضد ’أعداء‘ الولايات المتحدة، مثل الصين وكوبا وإيران وفنزويلا. وباستثناء الصين، أدت هذه التكتيكات إلى شل الاقتصادات وإلحاق الضرر بالمجتمعات".‏


‏مع التقنيات المتاحة لنا، يمكننا أن نرى زوال الإمبراطورية الأميركية بينما يحدث في الوقت الفعلي. ووفقًا لألكسندر ميركوريس، مضيف منصة "ذا ديوران":
‏"إن فترة الخطر الكبرى في أي نظام دولي هي عندما تتراجع الإمبراطورية الممتدة، عندما تبدأ في فقدان السيطرة. وعندئذ، إما أن يفهموا (قادة الإمبراطورية) أن إمبراطوريتهم في تراجع ويحاولوا إدارة هذا التراجع بطريقة تحافظ على النظام الدولي، أو أنهم سيقومون بدلاً من ذلك بالمغامرة بكل شيء ويصرفون كل الطاقة في محاولة الحفاظ على موقفهم من خلال إدارة الصراعات التي يعتقدون أنهم يستطيعون الفوز بها".‏


‏ولكن، حتى لو كانت الإمبراطورية الأميركية في انحدار، فإنها ما تزال بعيدة عن الانتهاء. من المهم أن نفهم أن أميركا هي قوة نووية، وأنها ما تزال تتمتع بالهيمنة العسكرية على معظم العالم.‏ ووفقًا ‏‏لـ"مشروع الجنود"‏‏، تمتلك أميركا ما يقرب من 750 قاعدة عسكرية أجنبية أميركية منتشرة في 80 دولة. ولدى روسيا (وهي قوة نووية) حوالي 30 قاعدة، في حين أن لدى الصين (وهي تهديد نووي) خمس قواعد فقط.‏


‏يعني هذا أن لدى الولايات المتحدة ثلاثة أضعاف عدد القواعد العسكرية الخارجية التي تمتلكها جميع البلدان الأخرى مجتمعة. وأحد التحديات الرئيسية التي تواجه الولايات المتحدة هو الردع النووي ومفهوم التدمير المؤكد المتبادل. سوف يقاَبل هجوم نووي تشنه إحدى القوى العظمى بهجوم نووي مضاد ساحق بحيث تتم إبادة كل من المهاجم والمدافع على حد سواء. ‏


ومع فهم هذا الواقع، تتحول القضية إلى واحدة اقتصادية. وكانت الولايات المتحدة، حتى وقت قريب، قادرة على تأكيد إرادتها من خلال نفوذها الاقتصادي ونظام العقوبات، جنبًا إلى جنب مع التهديد بالقيام بعمل عسكري. لكن هذه الطريقة لم تعد تعمل. لقد أعادت دول عدم الانحياز تنظيم صفوفها.‏


‏الصين روسيا وعمليات إعادة الاصطفاف الأخرى

 


‏ردًا على نظام العقوبات الأميركي، اضطرت الصين وروسيا إلى إعادة تقييم مصالحهما وخلافاتهما، ووصلتا إلى فهم أن الهيمنة والإمبريالية الأميركية تمثل تهديدًا مشتركًا لهما. وأثبتت الحرب الأميركية بالوكالة‏‏ في ‏‏أوكرانيا أنها تشكل تهديدا كبيرًا لروسيا وتهدد بتورط الولايات المتحدة في تايوان ببدء حرب مع الصين. وتتمتع روسيا والصين الآن بأفضل العلاقات بينهما منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين. ثمة "نظام عالمي جديد" يلوح في الأفق، ولكنه ليس نفس النظام الذي تحدث عنه بوش، الرئيس الحادي والأربعون.


‏وتشمل الأمثلة الأخرى على إعادة الاصطفافات العالمية أعلان المملكة العربية السعودية وإيران، في 10 آذار (مارس)، عن تطبيع العلاقات بينهما بوساطة الصين، وكذلك دعوة رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، 67 من قادة الدول و20 ممثلاً عن المنظمات الدولية إلى ‏‏قمة مجموعة "بريكس"‏‏ المقبلة.


‏على الرغم من أن ذلك ليس مدرجًا على جدول الأعمال الفوري للقمة، فإن "بريكس" تتجه نحو إقرار عملة جديدة تستند إلى سلة من عملات الكتلة الأساسية المكونة من خمس دول. وقد دعا الرئيس الكيني، وليام روتو، الدول الأفريقية إلى الابتعاد عن استخدام الدولار الأميركي للتجارة داخل القارة واختيار استخدام العملات المحلية.‏


في الرد على العقوبات الأميركية، تعيد دول عدم الانحياز تنظيم اصطفافاتها، مما يجعل من الصعب بشكل متزايد على الولايات المتحدة استعراض قوتها، حيث تسعى الدول إلى تأكيد المزيد من السيطرة على موارد بلادها وحكمها. ‏


‏من المهم أن ندرك أنه على الرغم من العقوبات الأميركية، تم افتتاح محلات سوبر ماركت إيرانية جيدة التجهيز في فنزويلا، وتقوم إيران بتصدير النفط إلى البلد اللاتيني. ودخلت الصين وإيران في شراكة استراتيجية مدتها 25 عامًا في التجارة، والسياسة، والثقافة والأمن.‏


‏هل تتذكرون عندما أخبر الرئيس جو بايدن العالم بأن العقوبات الأميركية ضد روسيا ستشل اقتصادها؟ قال حينئذ قولته المشهور: "نتيجة لهذه العقوبات غير المسبوقة، سيتحول الروبل على الفور تقريبًا إلى ركام..".‏


ولكن، ‏وفقًا ‏‏لبيانات البنك الدولي‏‏، كانت روسيا من بين أكبر خمسة اقتصادات في العالم والأكبر في أوروبا من حيث تعادل القوة الشرائية (PPP) اعتبارًا من نهاية العام 2022، على الرغم من العقوبات الغربية. وتصدرت الصين القائمة كأكبر اقتصاد في العالم (31 تريليون دولار)، تليها الولايات المتحدة والهند واليابان. وهذا كثير على العقوبات الأميركية.‏


‏حتى في حين تحاول الولايات المتحدة حماية قاعدة طائراتها من دون طيار ووصول فرنسا إلى مورد اليورانيوم من خلال محاولة ممارسة قوتها في النيجر، فإن القادة الحاليين لتلك الحكومة لم يجتمعوا مع مدبرة الانقلاب الأميركية فوق العادة، القائمة بأعمال نائب وزير الخارجية الأميركي، فيكتوريا نولاند. كما أنهم لم يسمحوا لها بمقابلة الرئيس المخلوع محمد بازوم. إنهم يتجاهلون "النظام القائم على القواعد".‏


‏ومع استمرار الجزائر ومالي وبوركينا فاسو في دعم المجلس العسكري الذي قاد الانقلاب في النيجر، فإن قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على الديناميات هي موضع شك. ويصبح من الصعب بشكل متزايد إبراز القوة عندما يرى العالم أنك ضعيف، وتصبح التحالفات البديلة متاحة.‏


‏يرى الأميركيون بلدهم في السياق الرومانسي لصورة "المدينة المشرقة على تل" التي تحدث عنها ريغان بينما يرى "العالم الثالث" الولايات المتحدة كوحش، حيث نمت الشوائب، والمرض، والاستعمار/ الاستعمار الجديد ووحشية أوروبا لتصل إلى أبعاد مروعة. وتمر دول "عدم الانحياز" الآن في مرحلة إعادة تنظيم وتغيير اصطفافات. ويجب أن تكون الولايات المتحدة، كما يقول كيلينز، متعلقة بـ"الأشخاص الأحرار" وليس "المؤسسات الحرة".‏


يقال أن البغل المحتضر يمكنه تدبر أمر توجيه في بعض الركلات. وقد تكون هذه الركلات خطيرة، لكنها لا تدوم طويلاً. بالتدريج، تصبح أضعف وأضعف حتى يستسلم البغل أخيرًا. ونحن نعلم أن الإمبراطورية الأميركية لن تذهب بهدوء إلى الليل الطويل. هذا هو الوقت عندما تكون بصدد إثبات أنها أخطر ما يكون. وكما كتب أنطونيو غرامشي: ‏


‏"تكمن الأزمة على وجه التحديد في حقيقة أن القديم يموت وأن الجديد لا يمكن أن يولد؛ في هذه الفترة الفاصلة تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية".‏


‏*د. ويلمر ليون‏ Wilmer Leon: عالم سياسي ومؤلف في عدة مجالات، خبرته الأساسية هي الحكومة الأميركية والسياسة السوداء والسياسة العامة. كان لمدة 11 عاما محاضرا/ أستاذا مشاركًا في قسم العلوم السياسية في جامعة هوارد في واشنطن العاصمة.‏ وهو حاليًا مضيف برنامج حواري إذاعي يبث على المستوى الوطني على قناة SiriusXM الفضائية الإذاعية 126، وكاتب عمود، ومعلق سياسي منتظم في البرامج الإخبارية الوطنية والدولية.‏ ‏حصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من معهد هامبتون، وماجستير الإدارة العامة (MPA) من جامعة هوارد، والدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة هوارد. كتابه الأخير هو "منظور آخر للسياسة‏‏".


*نشر هذا المقال تحت عنوان: Every Empire Falls


هامش المترجم:
**‏كارل كريستيان روف‏‏ Karl Christian Rove: (25 كانون الأول/ ديسمبر 1950) هو مستشار سياسي ‏‏جمهوري‏‏ أميركي وعضو جماعة ضغط. كان ‏‏كبير المستشارين‏‏ ‏‏ونائب رئيس الموظفين‏‏ خلال فترة إدارة الرئيس ‏‏جورج دبليو بوش‏‏ حتى استقالته في 31 آب (أغسطس) 2007. كما ترأس مكتب الشؤون السياسية، ‏‏ومكتب الاتصال العام‏‏، ومكتب ‏‏البيت الأبيض للمبادرات الاستراتيجية‏‏. ‏‏قبل تعيينه في البيت الأبيض، ينسب إليه الفضل في انتصارات جورج دبليو بوش الانتخابية في العامين 1994 و1998 في ولاية ‏‏تكساس‏‏‏‏، بالإضافة‏‏ إلى حملات بوش الرئاسية الناجحة في العامين 2000 و‏‏2004‏‏. في خطاب النصر الذي ألقاه العام 2004، أشار بوش إلى روف باسم "المهندس". كما كان لروف الفضل في العديد الحملات الناجحة منذ مغادرته البيت الأبيض. عمل كمحلل سياسي وكاتب مساهم في  كل من "‏‏فوكس نيوز"‏‏ ‏و"نيوزويك"‏‏ ‏‏و"وول ستريت جورنال"‏‏. ‏

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

‏كيف صعدت الولايات المتحدة إلى إمبراطورية عالمية في القرن العشرين