القوة العظمى المختلة وظيفيا: هل تستطيع أميركا منقسمة ردع الصين وروسيا؟ (2-2)

صاروخ تايتان 2 النووي الأميركي - (أرشيفية)
صاروخ "تايتان 2" النووي الأميركي - (أرشيفية)

روبرت غيتس* - (فورين أفيرز) عدد تشرين الثاني (نوفمبر)/ كانون الأول (ديسمبر) 2023
بسبب الانقسامات الداخلية، والرسائل المتضاربة، وتناقض القادة السياسيين بشأن الدور الذي ينبغي أن تلعبه الولايات المتحدة في العالم، تكون شك كبير في الخارج في موثوقية واشنطن.

اضافة اعلان

 

ويتساءل الأصدقاء والخصوم عما إذا كانت التزامات بايدن والتحالفات التي يبنيها تشكل عودة إلى الطبيعية، أو ما إذا كان ازدراء ترامب للحلفاء برفع شعار "أميركا أولاً" سيكون الطابع المهيمن للسياسة الأميركية في المستقبل.

 

وقد أصبح حتى أوثق الحلفاء يتحوطون في رهاناتهم بشأن أميركا. وفي عالم تترقب فيه روسيا والصين الفرص المناسبة، فإن هذه الانطباعات ستكون بالغة الخطورة.
*   *   *
لوقت طويل، أهملت الدبلوماسية الأميركية جزءاً كبيراً من الجنوب العالمي الذي يشكل الجبهة المركزية للمنافسة غير العسكرية مع الصين وروسيا. ومن مظاهر ذلك ترك مناصب سفراء الولايات المتحدة في الكثير من بلدانه شاغرة بشكل غير متكافئ.

 

ولذلك، شرعت منذ العام 2022، بعد أعوام طويلة من الإهمال، في محاولة إحياء علاقاتها مع دول جزر المحيط الهادئ.

 

لكن الصين كانت قد استغلت غياب واشنطن عن تلك الدول لإبرام مختلف أنواع الاتفاقات الأمنية والاقتصادية معها.

 

وفي ضوء وجود منافسة عالمية مع الصين -وحتى مع روسيا- على الأسواق والنفوذ، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتحمل عواقب غيابها عن أي مكان.


الآن، يدفع الجيش الأميركي أيضاً ثمن الخطأ السياسي، وخاصة في الكونغرس. في كل عام منذ 2010، فشل الكونغرس في الموافقة على مشاريع قوانين الاعتمادات المالية لمخصصات الجيش قبل بداية السنة المالية التالية.

 

وبدلا من ذلك، وضع المشرعون ترتيبًا يسمح لوزارة الدفاع بعدم إنفاق أموال أكثر من التي أنفقها في العام السابق، ويمنعها من بدء أي شيء جديد أو زيادة الإنفاق على البرامج الموجودة بالفعل.

 

وتحكم هذه الاستمرارية الإنفاق الدفاعي إلى أن يتم إقرار مشروع قانون جديد للاعتمادات المالية، يرتب الإنفاق من بضعة أسابيع إلى سنة مالية كاملة.

 

وكانت النتيجة هي أن لا تصل البرامج والمبادرات الجديدة المبتكرة في كل عام إلى أي نتيجة، وأن يستمر ذلك لفترة مطوّلة لا يمكن التنبؤ بنهايتها.


أفضى قانون مراقبة الميزانية للعام 2011 إلى إجراء تخفيضات تلقائية في الإنفاق، تسمى "الاقتطاعات"، وإلى خفض الميزانية الفيدرالية بمقدار 1.2 تريليون دولار على مدى 10 سنوات.

 

وعانى الجيش الذي كان يستفيد في ذلك الوقت من حوالي 15 في المائة من النفقات الفيدرالية، من فقدان نصف هذه التخفيضات، بما يعادل 600 مليار دولار.

 

وبالإضافة إلى مخصصات الأفراد، جاء الجزء الأكبر من هذه التخفيضات في الصيانة، والعمليات، والتدريب وحسابات الاستثمار.

 

وقد جلب ذلك عواقب وخيمة وطويلة الأمد. ومع ذلك، يتجه الكونغرس منذ أيلول (سبتمبر) 2023 إلى ارتكاب الخطأ نفسه مرة أخرى.

 

ومن الأمثلة الأخرى على إلحاق سياسة الكونغرس ضرراً حقيقياً بالجيش، قيام أعضاء مجلس الشيوخ بتعطيل المصادقة على تعيين المئات من كبار الضباط لأشهر عدة متتالية، مع ما يعنيه ذلك من إضعاف الاستعداد والقيادة بشكل خطر، وتسليط الضوء على الخلل الحكومي الأميركي في مثل هذا المجال الحيوي، بالإضافة إلى أنه يجعل الولايات المتحدة أضحوكة في نظر خصومها.

 

وهكذا، في حين أن الولايات المتحدة تحتاج إلى قوة عسكرية أكبر للتصدي للتهديدات التي تواجهها، يضع الكونغرس والسلطة التنفيذية عقبات كبيرة تحول دون تحقيق هذا الهدف.


ارتقاء إلى مستوى المسؤولية


ثمة منافسة ملحمية تجري الآن بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا وأصدقائهما من جهة أخرى.

 

وحتى تتمكن واشنطن من أن تكون في أقوى وضع ممكن لردع خصومها عن ارتكاب المزيد من الأعمال الناجمة عن الحسابات الاستراتيجية الخاطئة، يجب على قادة الولايات المتحدة أولاً معالجة انهيار التوافق الذي كان قد ساد بين الحزبين منذ عقود على تعريف الدور الذي ينبغي أن تلعبه الولايات المتحدة في العالم.

 

وليس من المستغرب أن يرغب الكثير من الأميركيين، بعد 20 عاماً من الحرب في أفغانستان والعراق، في الانعزال، خصوصاً في ضوء المشكلات العديدة التي تواجهها الولايات المتحدة في الداخل، لكنّ على القادة السياسيين مواجهة هذه العواطف وشرح الكيفية التي يرتبط بها مصير البلد بطريقة يتعذر فصمها بما يحدث في الأماكن الأخرى من العالم.

 

كان الرئيس فرانكلين روزفلت قد أشار ذات مرة إلى أن "أكبر واجبات رجل الدولة هو التثقيف". لكن الرؤساء الجدد، ومعهم معظم أعضاء الكونغرس، يفشلون في الاضطلاع بهذه المسؤولية الأساسية.


يتعين على الأميركيين أن يفهموا السبب الذي يجعل القيادة الأميركية العالمية، على الرغم من الكلف المترتبة عليها، مهمة جداً للحفاظ على السلام والازدهار.

 

ويجب عليهم أن يعرفوا كيف أن المقاومة الأوكرانية الناجحة للغزو الروسي تتسم بأهمية بالغة في ردع الصين عن غزو تايوان.

 

وهم في حاجة إلى معرفة السبب الذي يجعل الهيمنة الصينية على غرب المحيط الهادئ تشكل تهديدًا للمصالح الأميركية، والعلاقة بين طبيعة النفوذ الصيني والروسي في الجنوب العالمي وميزانيتهم. وعليهم معرفة السبب في أن الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف مهم للحفاظ على السلم العالمي.

 

وفي الوقت نفسه، ينبغي أن يعرفوا لماذا يشكل التحالف الصيني الروسي تهديداً كبيرًا للولايات المتحدة. هذا هو نوع علاقات الترابط التي يحتاج القادة السياسيون الأميركيون إلى شرحها للجمهور كل يوم.


لن يتحقق ذلك بخطاب من المكتب البيضاوي أو كلمة في الكونغرس، وإنما يتطلب تكراراً متواصلاً حتى تترسخ الرسالة. إلى جانب التواصل المباشر مع الشعب الأميركي وليس من خلال المتحدثين الرسميين، يجب على الرئيس قضاء بعض الوقت في مناسبات مثل حفلات العشاء، وعقد لقاءات مع أعضاء الكونغرس ووسائل الإعلام لشرح الدور القيادي الذي تضطلع به الولايات المتحدة في العالم.

 

وبالنظر إلى الطبيعة المجزأة للاتصالات وتعدد منصاتها في العصر الحديث، يجب على أعضاء الكونغرس أن يتولوا بأنفسهم إيصال الرسالة إلى ناخبيهم في مختلف أنحاء البلاد.


وما مضمون هذه الرسالة؟ ينبغي أن تشرح كيف أن القيادة العالمية الأميركية أتاحت 75 عاماً من السلام بين القوى العظمى، في أطول فترة منذ قرون. في تاريخ الأمم، ليس هناك ما هو أكثر كلفة الحرب، وليس هناك أي شيء آخر يمكن أن يشكل تهديداً أكبر من الحرب لأمنها وازدهارها.

 

وليس هناك ما يزيد حتمال نشوب الحرب أكثر من تجاهل الحقائق والتظاهر بأن الولايات المتحدة لا تتأثر بالحوادث التي تقع في الأماكن الأخرى، كما تعلم البلد بالطريقة الصعبة من تجارب ما قبل الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وأحداث 11 أيلول (سبتمبر).

 

كانت القوة العسكرية للولايات المتحدة، والتحالفات التي أقامتها، والمؤسسات الدولية التي صممتها، كلها ضرورية لردع العدوان عليها وعلى شركائها.

 

وكما أظهر قرن كامل من الأدلة الوفيرة، فإن عدم التعامل مع المعتدين لا يجلب سوى تشجيع المزيد من العدوان.

 

ومن السذاجة الاعتقاد بأن نجاحا روسيا في أوكرانيا لن يؤدي إلى مزيد من العدوان الروسي في أوروبا، أو حتى إلى نشوب حرب بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.

 

ومن السذاجة بالقدر نفسه الاعتقاد بأن النجاح الروسي في أوكرانيا لن يزيد إلى حد كبير من احتمالات شن عدوان صيني على تايوان، ومعه احتمال نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين.


سوف يكون عالم من دون قيادة أميركية موثوقة عالماً من المستبدين المفترسين، حيث جميع الآخرين فرائس محتملة.

 

وإذا أرادت أميركا حماية شعبها وأمنها وحريتها، فإنها يجب أن تواصل الاضطلاع بدورها القيادي العالمي. وكما قال رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، عن الولايات المتحدة في العام 1943، فإن "المسؤولية هي ثمن العظمة".


سوف تكون إعادة بناء دعم محلي لهذه المسؤولية أمراً ضرورياً لإعادة بناء الثقة بين الحلفاء، وجعل الخصوم يدركون أن الولايات المتحدة تفي بالتزاماتها. ولكن، بسبب الانقسامات الداخلية، والرسائل المتضاربة، وتناقض القادة السياسيين بشأن الدور الذي ينبغي أن تؤديه الولايات المتحدة في العالم، تولد شك كبير في الخارج بموثوقية واشنطن.

 

ويتساءل الأصدقاء والخصوم عما إذا كانت التزامات بايدن والتحالفات التي يبنيها تشكل عودة إلى الطبيعية، أو ما إذا كان ازدراء ترامب للحلفاء برفع شعار "أميركا أولاً" سيكون الطابع المهيمن للسياسة الأميركية في المستقبل.

 

وقد أصبح حتى أوثق الحلفاء يتحوطون في رهاناتهم بشأن أميركا. وفي عالم تترقب فيه روسيا والصين الفرص المناسبة، فإن هذه الانطباعات ستكون بالغة الخطورة.


سوف تكون الأولوية القصوى هي استعادة الدعم الشعبي للقيادة العالمية الأميركية، لكنّ هناك العديد من الخطوات الأخرى التي يجب أن تتخذها الولايات المتحدة للعب هذا الدور عملياً.


أولاً، يجب عليها أن تذهب إلى أبعد من مجرد إعادة التمحور نحو آسيا. سوف يكون تعزيز علاقات الولايات المتحدة مع كل من أستراليا، واليابان، والفيليبين، وكوريا الجنوبية ودول أخرى في المنطقة، مطلوباً، لكنه غير كاف، حيث تعمل الصين وروسيا معاً ضد المصالح الأميركية في كل قارة.

 

ولذلك تحتاج واشنطن إلى وضع استراتيجية للتعامل مع بقية العالم، خاصة في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.

 

وقد أصبح الروس والصينيون يتفوقون بسرعة على الولايات المتحدة في تطوير العلاقات الأمنية والاقتصادية.

 

ولا ينبغي أن تقسم الاستراتيجية الأميركية العالم إلى ديمقراطيات ودكتاتوريات. من الطبيعي أن تدعم الولايات المتحدة الديمقراطية وحقوق الإنسان دائماً وفي كل مكان، لكن هذا الالتزام لا ينبغي أن يجعل واشنطن غافلة عن حقيقة أن المصالح الوطنية الأميركية تتطلب منها العمل أحيانًا مع حكومات قمعية لا تمثل إرادة شعوبها.


ثانياً، يجب أن تتضمن استراتيجية الولايات المتحدة تفعيل كل أدوات قوتها الوطنية. لقد أصبح الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء معادين للاتفاقات التجارية، وهيمنت النزعة الحمائية على الكونغرس.

 

وأدت هذه الاتجاهات إلى ترك المجال مفتوحاً أمام الصينيين للعمل في الجنوب العالمي الذي يعرض أسواقاً وفرصاً استثمارية كبيرة.

 

وعلى الرغم من العيوب التي تشكو منها "مبادرة الحزام والطريق"، مثل تراكم الديون الكبيرة على البلدان المستفيدة، فقد استخدمتها بكين بنجاح لبسط نفوذ الصين وزرع شركاتها وبراثنها الاقتصادية في عشرات البلدان.

 

وهي مبادرة باقية بسبب تضمينها في في الدستور الصيني في العام 2017. ويجب على الولايات المتحدة وحلفائها إيجاد سبل للتنافس مع هذه المبادرة بطرق تتناسب مع نقاط قوتهم -خاصة وقبل كل شيء مع قدرات القطاع الخاص لديهم.

 

لدى مقارنتها مع الجهود الصينية، تبقى برامج المساعدات التنموية التي تقدمها الولايات المتحدة محدودة، بالإضافة إلى كونها مجزأة ومنفصلة عن الأهداف الجيوسياسية الأميركية الأكبر.

 

وحتى عندما تنجح برامج المساعدات الأميركية، تحتفظ الولايات المتحدة بصمت مطبق بشأن إنجازاتها. وعلى سبيل المثال، لم تعلن أميركا شيئاً يُذكر عن "خطة كولومبيا"، وهي برنامج مساعدات مصمم لمكافحة تجارة المخدرات الكولومبية.

 

ولم تتحدث عن خطة الرئيس الطارئة للمساعدة على مكافحة مرض نقص المناعة البشرية المكتسبة (الأيدز)، التي أنقذت أرواح الملايين في أفريقيا.


سوف يكون تنشيط الدبلوماسية العامة ضروريا لتعزيز المصالح الأميركية. وقد أسهمت سياسات الولايات المتحدة في إضعاف هذه الأداة الحاسمة منذ نهاية "الحرب الباردة".

 

وفي الوقت نفسه، تقوم الصين بإنفاق المليارات في جميع أنحاء العالم لتعزيز سرديتها. كما تبذل روسيا بدورها جهوداً حثيثة لنشر دعايتها ومعلوماتها المضللة، بالإضافة إلى إثارة الفتنة داخل الديمقراطيات وفيما بينها. ولذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى انتهاج استراتيجية للتأثير على القادة والشعوب الأجنبية، خاصة في الجنوب العالمي.

 

وحتى تحقق النجاح، تحتاج هذه الاستراتيجية من حكومة الولايات المتحدة إنفاق المزيد من المال، بالإضافة إلى دمج وسائل الاتصال المتعددة والمتفرقة واستخدامها بشكل متزامن ومنسق.
تشكل المساعدات الأمنية للحكومات الأجنبية مجالاً آخر يحتاج إلى مراجعة مستحقة.

 

على الرغم من أن الجيش الأميركي يؤدي عملاً جيداً في تدريب القوات الأجنبية، فإنه يتخذ قرارات غير متساوقة بشأن أماكن وطرق عمله، من دون مراعاة الديناميات الإقليمية بما يكفي، أو من دون النظر في كيفيات تحسين الشراكات مع الحلفاء.

 

وفي حين تقدم روسيا بشكل متزايد مساعدات أمنية للحكومات في أفريقيا، خاصة تلك التي تنطوي على نزعة استبدادية، لا تملك الولايات المتحدة استراتيجية فاعلة لمواجهة هذه الجهود.

 

كما يجب على واشنطن أيضاً أن تجد طريقة لتسريع تسليم المعدات العسكرية إلى الدول المستفيدة.

 

ثمة الآن صفقات أسلحة متراكمة بقيمة 19 مليار دولار تقريباً بيعت تايوان ولكن لم يتم تسليمها بعد، مع تأخير يتراوح ما بين 4 و10 سنوات.

 

وعلى الرغم من أن هذا التأخير تأثر بعوامل متعددة، فإن أحد أسبابه المهمة يتعلق بالقدرة الإنتاجية المحدودة لصناعة الدفاع الأميركية.


ثالثاً، يجب على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في استراتيجيتها النووية في مواجهة التحالف الصيني الروسي.

 

وسوف يختبر التعاون القائم بين روسيا التي تعمل على تحديث قوتها النووية الاستراتيجية، والصين العاكفة على توسيع قوتها النووية التي كانت متواضعة في السابق، صدقية الردع النووي الأميركي.

 

وينطبق الأمر نفسه على القدرات المتنامية لكوريا الشمالية في مجال الأسلحة النووية، والإمكانيات الإيرانية في هذا المجال.

 

وحتى تتمكن من تعزيز قوة الردع لديها، تحتاج الولايات المتحدة بالتأكيد إلى تحسين استراتيجيتها -وربما توسيع حجم قواتها النووية أيضاً.

 

وقد أصبحت القوات البحرية الصينية والروسية تجريان تدريبات عسكرية مشتركة على نحو متزايد، ولن يكون من المستغرب أيضاً أن تكونا قد نسقتا بشكل أوثق قواتهما النووية الاستراتيجية.


ثمة اتفاق واسع النطاق في واشنطن على أن البحرية الأميركية تحتاج إلى المزيد من السفن الحربية والغواصات.

 

ومرة أخرى، كان التناقض بين خطاب رجال السياسة وأفعالهم بهذا الشأن صارخاً. لم تطرأ على مدى سنوات أي تغييرات على الميزانية المخصصة لبناء السفن بشكل أساسي.

 

وفي السنوات الأخيرة، حتى مع زيادة الميزانية بشكل كبير، حالت طبيعة القرارات ومشكلات التنفيذ دون توسع القوة البحرية الأميركية.

 

وكانت العقبات الرئيسة التي تقف في طريق توسيع القوة البحرية تتعلق أساسًا بالميزانية، حيث ثمة افتقار إلى تمويل أكبر وأكثر استدامة للقوات البحرية نفسها، وعلى نطاق أوسع، نقص الاستثمار في أحواض بناء السفن والصناعات التي تدعم بناء السفن وصيانتها.

 

ومع ذلك، لا يبدو أن هناك أي شعور بالإلحاح لدى الساسة للتصدي لهذه المشكلات في أي وقت قريب.

 

وهذا غير مقبول.

 

أخيراً، يتعين على الكونغرس أن يغير الطريقة التي يخصص بها الأموال لوزارة الدفاع. وفي الوقت نفسه، يجب على الوزارة نفسها تغيير الطريقة التي تنفق بها تلك الأموال.

 

ويجب على الكونغرس التصرف بسرعة وكفاءة أكبر عندما يتعلق الأمر بالموافقة على ميزانية الدفاع.

 

ويعني هذا في المقام الأول إقرار مشاريع القوانين المتعلقة بالاعتمادات المالية العسكرية قبل بداية السنة المالية، وهو تغيير سيكون من شأنه تمكين وزارة الدفاع من تكوين رؤية عن الأمور التي تمس الحاجة إليها.


ويتعين على وزارة الدفاع أن تقوم بإصلاح آليات عمليات الشراء، المتصلبة، ضيقة الأفق والبيروقراطية التي أصبحت بالية في عصر أصبحت فيه المرونة والسرعة أكثر أهمية من أي وقت مضى.

 

وكان القادة في وزارة الدفاع قد أشاروا مرارًا إلى هذه العيوب وأعلنوا عن عدد من المبادرات اللازمة لتصحيحها، لكن التحدي يكمن في التنفيذ الفاعل والعاجل.


أفعال بدلا من الأقوال


ترى الصين وروسيا أن المستقبل سيكون حليفهما. وعلى الرغم من كل الخطابات القوية التي تصدر عن الكونغرس والسلطة التنفيذية في الولايات المتحدة حول التصدي لهؤلاء الخصوم، من اللافت أن الأفعال تبقى قليلة.

 

ومع أنه كثيرًا ما يجري الحديث عن مبادرات جديدة، فإن التمويل والتنفيذ الفعلي يتحركان ببطء أو لا يتحركان على الإطلاق. لطالما كان الكلام سهلا، ولكن لا يبدو أن أحداً في واشنطن مستعد لإجراء التغييرات العاجلة المطلوبة.

 

وهذا محيِّر بما يكفي، لأنه في وقت تميز بسيادة القسمة الحزبية والاستقطاب الشديدين في واشنطن، أدت السياسات التي ينتهجها شي وبوتين إلى حشد دعم كبير بين صناع السياسات من كلا الحزبين لصالح رد فعل أميركي قوي على الأعمال العدوانية الروسية والصينية، حتى لو بدا الدعم هشاً.

 

وقد أتاح ذلك للسلطة التنفيذية والكونغرس فرصة نادرة للعمل معاً نحو إرفاق خطاباتهما القوية عن مواجهة الصين وروسيا بإجراءات بعيدة المدى تجعل من الولايات المتحدة خصماً أكثر تأثيرًا، يمكنه المساعدة على ردع احتمالات الحرب.


ارتكب شي وبوتين، اللذان يحيط بهما أشخاص يؤيدونهما في كل ما يقولان، أخطاء جسيمة كلفت بلديهما الكثير.

 

وألحقا الضرر ببلديهما على المدى الطويل. لكنهما سيظلان يشكلان، في المستقبل المنظور، خطراً يجب على الولايات المتحدة التعامل معه.

 

وحتى لو توافرت أفضل الظروف بوجود عالم تتمتع فيه حكومة الولايات المتحدة بجمهور مؤيد، وقادة نشطين، واستراتيجية متماسكة، سوف يظل هذان الخصمان يشكلان تحدياً هائلاً.

 

ومع ذلك، ما يزال المشهد الداخلي في الولايات المتحدة اليوم أبعد ما يكون عن الانتظام. فقد أصبح الرأي العام الأميركي يميل إلى الانطواء ووجه جُل تركيزه إلى المسائل الداخلية، وغرق الكونغرس في المشاحنات الفظة وسياسة حافة الهاوية.

 

وأمام هذا الواقع، عكف الرؤساء المتعاقبون إما على التنصل من الدور العالمي الذي تلعبه أميركا، أو أنهم لم يقدموا تفسيراً جيداً لضرورة هذا الدور. وللوقوف في وجه مثل هذين الخصمين القويين الميالين إلى المجازفة، يجب على الولايات المتحدة أن تعزز جهودها لمعالجة المجالات المذكورة جميعًا.

 

وعندئذٍ فقط يمكنها أن تأمل في ردع شي وبوتين عن المزيد من الرهانات السيئة. باختصار، الخطر حقيقي جدا.

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

  القوة العظمى المختلة وظيفيا: هل تستطيع أميركا منقسمة ردع الصين وروسيا؟ (1 - 2)


 



 


*روبرت أم. غيتس Robert M. Gates: كان وزير الدفاع في الولايات المتحدة في الفترة بين العامين 2006 و2011.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Dysfunctional Superpower: Can a Divided America Deter China and Russia?

[email protected]