الإزميل وجدار الغرانيت؟

هل يقدر صحافيون عرب على تعرية تابوهات مجتمعية و/ أو مواجهة مراكز قوى توارت خلف عباءات - مثل مؤسسات دينية- لممارسة أنشطة غير مشروعة، تضر بالمصلحة العامة؟ هل يمتلكون "أزاميل" لنحت جدران الصمت على خُطى زميلهم الأميركي والتر "روبي" روبنسون، الذي نبش -مع فريقه الاستقصائي- قضية تحرش مزمنة أبطالها رجال دين في الكنيسة الكاثوليكية بمدينة بوسطن، مفجرا فضيحة أدخلت هذه المؤسسة المقدسة في أعمق أزمة منذ عقود؟اضافة اعلان
الجواب على الأغلب لا. فالتكاليف السياسية والمهنية والقانونية مرتفعة على الصحافي/ة ووسيلته/ا الإعلامية على حد سواء. كما أن هناك قضايا مصيرية أكثر أهمية -بالنسبة للإعلاميين- من كشف فضائح تمس رجال دين وتدخل في باب المحظورات. المجتمع بأغلبيته سيقف ضد أي صحافي/ة يقرر رفع معوله لتحطيم جدار الغرانيت المحيط برجال دين ومؤسساتهم، في مسعى إلى كشف حقائق شنيعة، لما فيه المصلحة العامة.
أول من سيقف بالمرصاد لكاشفي التابوهات سيكون رؤساء تحرير، والذين يقع على عاتقهم تحديد الخط التحريري وضمان إنفاق الأموال على ملفات من شأنها تعزيز صدقيتهم واستقطاب معلنين ومتابعين. وفي ضوء تقدير المخاطر واحتمالات استجرار غضب "دكتاتورية الشارع"، يفضل رؤساء تحرير الابتعاد عن "وجع الراس"، مقابل ضمان تأمين تمويل مستدام، خصوصا عبر الإعلانات التجارية. ثم تأتي انتقادات زملاء الصحافي/ة ممن يتخذون مهنة المتاعب كوظيفة، وكذلك بقية المجتمع الذي يرفض التعرض لصدمات من هكذا حقائق.
مثل هذه التحديات تعرض لها روبنسون وفريقه الاستقصائي "سبوت لايت" في صحيفة "بوسطن غلوب" الأميركية واسعه التأثير والانتشار. ففي منتصف العقد الماضي، أقدم هذا الفريق على كسر حاجز الصمت ونبش إساءات وتحرش جنسي ضد الأطفال وراء أسوار الدين، والدين منها براء.
كيف تخطّى هذا الفريق جميع العقبات لإنجاز تحقيقهم الذي كلّف الصحيفة مليون دولار على مدى عامين من التقصي؟ وكيف نجح الإعلاميون في إطلاع الرأي العام على تفاصيل التحرشات من دون أن يتعرضوا لأي مساءلة قانونية، من إحدى كبريات المؤسسات المؤثرة ماليا، وقانونيا وعقديا في الولايات المتحدة؟ في المحصلة، تحول التحقيق المكثف في سلسلة حلقات، إلى فيلم سينمائي حاز على جائزة أوسكار العام 2016، بعد 13 عاما على نيله جائزة "بوليتزر" الذهبية العام 2003.
قصّة التحقيق ممتعة؛ تحمل في طياتها دروسا عديدة لمعشر الصحافيين في الغرب الأكثر ديمقراطية وانفتاحا. وكذلك في العالم العربي؛ حيث تسود أنظمة أغلبيتها سلطوية وسط مجتمعات منغلقة على نفسها وعلى الآخر.
طرف الخيط
في العام 2001،  طلب رئيس التحرير الجديد من فريق "سبوت لايت" تقصّي قصص وشائعات من داخل الكنيسة الكاثوليكية. وبعد أشهر من التقصّي، أثبت الفريق أول قصّة تحرش. ثم كرّت المسبحة ليكتشف الصحافيون أن كاردينالات وكهنة كانوا ينظرون في الاتجاه الآخر، كلما طفت قصة عن إساءة قس لعشرات الأطفال في ستة أبرشيات مختلفة خلال السنوات الثلاثين الماضية. طرح الفريق أسئلة تتعلق برهبنة ذلك القس وأسلوب حياته، ثم أخبرهم أحد الأشخاص أن "هذا القس ما هو إلا رأس جبل جليدي بين قصص أكبر وأعمق". وكشف لهم أن "العديد من رجال الدين في هذه الكنيسة مارسوا إساءات ضد أطفال تكتمت الكنيسة عليهم".
صُدم الفريق الصحافي وقتها، وقرّر أعضاؤه أنه في حال كشفوا خفايا "دزينة" (12) من هؤلاء المذنبين، فستتحول القضية إلى قصة ذات تأثير مدو ومهم في المجتمع. وصدقت توقعاتهم. فبعد أربعة أشهر، بدأ الفريق بنشر باكورة سلسلة من 600 قصة، تمحورت حول هذه الفضيحة بعد أن تأكد لهم تورط 100 قس في مدينة بوسطن في ممارسة تلك الإساءات.
بعد 15 شهرا، ارتفع العدد المكتشف من القساوسة المسيئين إلى 249؛ حوالى 10 % من العدد الاجمالي للقساوسة في بوسطن.
في معرض شرحه لأسلوب عمل فريقه، قال روبنسون خلال منتدى استقصائي متخصص عقد في الأردن أواخر 2016، إن تلك "القصة أحدثت صدمة حول الولايات المتحدة وسائر العالم، لأن التعتيم على هذه الممارسات كان يتم وما يزال في أرجاء المعمورة".
ماذا كان التحدي؟ بحسب روبنسون، فإن فريقه قرّر تقصي أهم مؤسسة ذات ثقل وهيبة، تتمثّل بالكنيسة الكاثوليكية. ومن ثم، فإن أي خطأ في رصد المعلومات وتوثيقها كان سيكون كارثيا على الصحيفة؛ ذلك أن تبعات هكذا أخطاء تكون خطرة، نظرا لنفوذ مثل هذه المؤسسات وسطوتها في المجتمع. "التحديات أمامنا كانت مرعبة؛ مؤسسة الكنيسة كانت الأكثر نفوذا. وكان الكاردينال الأكثر تأثيرا من الناحية السياسية والدينية في ولاية ماساتشوستس الأميركية. كانت الكنيسة قلعة محصنة عصية على الاختراق. ولم يكن هناك اي متطلب لتقصيها". ويضيف روبنسون: "هذه الكنيسة كانت حائط الغرانيت الذي واجهناه وأحلناه إلى غبار من خلال إثبات دامغ لما وقع على آلاف الأطفال. لم يكن باستطاعة فريق الصحيفة النجاح لولا الدعم والمؤازرة من عشرات الأشخاص –بعضهم متضررون ومحامون- كل منهم جاء بقطعة صغيرة لحل هذه الأحجية. بعضهم من فئة كبار السن -من كلا الجنسين- كانوا تعرضوا لاعتداءات جنسية عندما كانوا أطفالا. بالطبع كانوا مترددين في الحديث حول ما حصل معهم، وبخاصة مع صحافيين. كان من المستحيل إجراء المقابلات عبر الهاتف أو البريد الالكتروني أو الرسائل الرقمية القصيرة (إس إم إس). كان بعض المقابلات يتطلب أسابيع من الانتظار لحين اقتناع الضحايا بضرورة كسر حاجز الصمت. لكن في الأخير، قدّموا الاثباتات الدامغة لفريق الاستقصاء لأنهم وصلوا إلى قناعة، كما هي حالنا، بأنهم إن لم يتكلموا بوضوح وعلانية ستستمر الإساءات تلك من دون أدنى شك".
ثم جاءت مساهمات المحامين. العديد منهم كان ترزّق ماليا من خلال التوصل إلى تفاهمات لإسقاط قضايا موكليهم من خلال مفاوضات سرية مع الكنيسة، ساهمت في إبقاء تلك الممارسات طي الكتمان. بالطبع، كان هؤلاء المحامون مقيدين ببنود المحافظة على سرية المعلومات ضمن الاتفاقات التي وقعت. لكن في الأخير أقنعهم الفريق الاستقصائي بكشف الأسرار حتى تنقشع الحقيقة. كانت هناك تقاطعات بين كل أبرشية كاثوليكية. ومع أن جميعها كانت على مقربة من صحف رئيسة، لكن لعقود لم تكشف الحقائق، ليس لأن رؤساء التحرير أداروا ظهورهم لهذه القصة، لكن بسبب عامل التقدير للكنيسة كمؤسسة، ولذلك لم يقوموا بطرح الأسئلة الصعبة، ومارسوا نوعا من الرقابة الذاتيه شبيهة بالتي يعاني منها الصحافيون العرب".
لكن حين قرّرت فرق العمل طرح تلك الأسئلة الملّحة، خُشي من ردود فعل الكنيسة واحتمال أن يدمر أي خطأ في التقصي والتوثيق سمعة الصحيفة. لكنهم أخطأوا في التقدير. فعلى العكس، شعر قراء الصحيفة بأنهم أصبحوا يمتلكون القوة من خلال الحقيقة بينما باتت المؤسسة صاحبة النفوذ والتي عاشت على السرية والخداع والتخويف والفساد خالية من النفوذ. وبعد النشر، تلقت الصحيفة مئات الاتصالات من ضحايا صامتين منحهم التحقيق فرصة للحديث عن معاناتهم. واعتبر قراء أن كشف الإساءات خيّب ظنّهم بقساوسة، كان يفترض أن يكونوا خدّام الله على الأرض.
العبرة في هذه القصّة أن الديمقراطية لا تترسخ من دون صحافة استقصاء مؤثرة. وعندما يوثق الصحافيون قصصهم ويقومون بواجبهم على أكمل وجه، فلن يستطيع المتسببون في الإيذاء دحض تحقيقاتهم أو مواجهة الحقائق التي يتوصلون إليها. فلا تخشوا من نبش الحقيقة، ذلك أن أصحاب مراكز القوى يخشون من الصحافيين الاستقصائيين أكثر مما يخاف الصحافيون منهم. فهم يخشون الحقيقة ونحن ننشد الحقائق. وهم يعيشون في خوف دائم من أسئلة الصحافيين الجسورين وإمكانية أن تكشف فسادهم المستشري وتكسر احتكارهم للقوة والنفوذ.
ماذا عن دور الإعلاميين العرب ونطاق تأثيرهم؟ هل يقدرون على فتح ملفات إساءات رجال دين؟