المباريات: معارك بلا قتلى

 

من القاهرة حملت لنا الأنباء قبل يومين، إصابة ثلاثة لاعبين من المنتخب الجزائري الذي وصل العاصمة المصرية من أجل إقامة المباراة النهائية مع شقيقه المنتخب المصري، على طريق الذّهاب إلى مونديال 2010 الذي سيقام في جنوب أفريقيا. الإصابات حدثت نتيجة اعتداء وقع على اللاعبين الجزائريين أثناء مرورهم بالحافلة في أحد أحياء مدينة القاهرة! مثل هذا الاعتداء شكّل ما يشبه الصّدمة لي، فكرة القدم كان ينبغي لها أن تنأى بعيداً بنفسها عن كلّ ما يشوّهها، ويحوّلها من كونها لعبة جميلة ذات رسالة حضارية تجسّر الفجوة بين الشعوب، إلى كونها (معركة بقاء) تُحدث الخلاف والفوضى بين الفريقين المتقابلين، وتزرع بينهما الفرقة والبغضاء.

اضافة اعلان

أقول ذلك وفي النّفس ألم وحسرة ممّا يحدث هنا في بلادنا، من معارك مجانيّة وشعارات تافهة ومجنونة، يجري ترديدها ما بين مباراة وأخرى، والتي تؤدّي فيما تؤدّي إليه إلى تفتيت اللحمة الوطنية، وتشويه الصّورة الوطنية الحقيقية لهذا الشّعب العربي النّبيل المخلص لقوميّته وعروبته.

فيما يبدو ليست الأخلاق الرياضيّة المريضة حكراً على فئات معيّنة منّا نحن العرب، وإنّما قد تكون مبثوثة لدى شعوب أخرى في العالم، من ذلك نذكر الحرب الطاحنة التي دارت بين هندوراس والسّلفادور العام 1969، والتي نشبت بسبب المباراة النهائية بين فريقيهما الكرويين، في إطار التصفيات النهائية لكأس العالم المقامة في المكسيك العام 1970! لن يغيب عن البال أيضاً اغتيال اللاعب الكولومبي الشهير (أسكوبار) العام 1994، بعد أن أدخل هدفاً عن طريق الخطأ في مرمى بلاده لصالح الولايات المتحدة الأميركية!

هذا على صعيد الحمّى الكرويّة التي تجتاح العالم بين فترة وأخرى، أمّا على الصّعيد المحلّي، فنرى باستمرار نذر الحرب الضّروس التي تستعر نيرانها بين الفرق الرياضية المتصارعة، أثناء إقامة المباريات، والتي تُخرِج لعبة كرة القدم عن مسارها الطبيعي. تلك النيران قد تنتقل أيضاً داخل البيت الواحد، بين الأخوة والأخوات، الذين ينقسمون بدورهم إلى طائفتين متصارعتين، وكلّ منهما يشجّع فريقاً. أمّا الفرق التي يشجّعونها فليس شرطاً أن تكون فرقاً أردنية أو حتى عربية! فقد يكون الأولاد من أنصار فرق كثيرة في العالم، برازيلية وبريطانية وألمانية. "اليوم سوف نبيدكم"، عبارة يمكن أن نسمعها من أحد الأبناء الذي أصبح الناطق الرسمي غير المعلن لفريق مانشيستر مثلاً، موجّهاً الكلام لأخيه الذي يشجّع فريق آرسنال!

تُرى ما الذي نريده من لعبة كرة القدم، ومن الرياضة بشكل عام؟ بالتّالي كيف يمكن لنا أن نوظّف مثل هذه اللعبة الممتعة المسلّية في نسيج حياتنا توظيفاً صحيحاً يحقّق أهداف التّسامح والمحبّة بين النّاس، بدل العراك اللفظي والشتائم التي قد تتطوّر إلى ما يشبه الصّدام الضّاري؟

في هذا المجال، لنعترف أنّنا لم نبذل الجهد الكافي على طريق بثّ الروح الرياضية، والوعي بشكل عام. هذا استنتاج قد يكون مقلقاً، وإلا ما معنى أن ينهار هذا الوعي دفعةً واحدة لدى إقامة مجرّد مباراة صغيرة في ملعب، فيتجرّد الجمهور من جلده، ويرغي ويزبد بالهتاف المسعور؟؟

مباراة كرة القدم هي أساساً ضدّ العنف، ضدّ الصّدام، وضدّ الحقد الأرعن. إنّها معركة، هذا صحيح، ولكنّها معركة تجري بأدوات مختلفة، فبدل البنادق والصواريخ ينبثق أمامنا اللاعبون بقاماتهم الممشوقة، وهم يركضون وراء تلك الكرة الصغيرة، الكرة التي لا تستطيع إيذاء قطّة! ليس هناك من دم، أو قتلى. ليس هناك غير تلك الفتنة الطاغية التي تتحرّك في الملعب، وغير تلك الأجساد الرشيقة التي تندفع وتحلّق وترقص على إيقاع سيمفوني تعزفه قلوب الجماهير، الجماهير التي تشاهد وتستمتع بالمشاهدة.

[email protected]