تجربة البعث: أما حان الوقت لمراجعتها؟

تمرّ هذا العام ستة عقود كاملة على التأسيس الرسميّ لـ "حزب البعث العربيّ" الذي أضيفت الى اسمه في 1953-54، ومع الاندماج بحزب أكرم الحوراني "العربيّ الاشتراكيّ"، كلمة "الاشتراكيّ".

اضافة اعلان

آنذاك ابتدأ المشروع بقيادة أستاذين ثانويين ودمشقيين درسا في فرنسا، هما ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، فقالا بالوحدة العربيّة والحريّة للأمّة والاشتراكيّة، وآلا على نفسيهما بناء تنظيم حزبيّ واحد يقود العرب، من محيطهم الى خليجهم، نحو المجد والسؤدد.

وقد عبّر حزب البعث، لا سيّما مع اندماجه بالحوراني وحزبه، عن صعود البورجوازيّة الصغرى في المدينة، ثم في الريف، وفي سورية ثم في العراق، عبر عمليّة التوسّع التي أحدثتها الاستقلالات ونشأة الجيوش والإدارة ونموّ التعليم والوظيفة والاقتصاد السلعيّ الصغير. وما لبثت هزيمة 1948 وقيام دولة اسرائيل ان عزّزا القوى الراديكاليّة الباحثة عن دور سياسيّ وقدّما لها الحجج على عجز الطبقات "الرجعيّة" القديمة. ولمّا ارتبطت الوظائف الاجتماعيّة في بلدان الثقافة الإسلاميّة - العثمانيّة، الى حدّ بعيد، بالأديان والطوائف، شكّلت هذه الوعود الاجتماعيّة أملاً لأبناء الجماعات المهمّشة ممن راحوا ينضمّون الى الأحزاب الراديكاليّة الناشئة وفي طليعتها البعث.

لكنّ البعث أيضاً، لا سيّما في مهده السوريّ، نمّ عن رغبة في تكبير سوريّة من خلال شعار "الوحدة"، أو، بحسب لغة البعثيّين، القضاء على التجزئة التي أحدثتها معاهدة سايكس بيكو ببترها لبنان وفلسطين والأردن عن "الأمّ" السوريّة(علماً ان ما حصل بالفعل هو اعادة تنظيم الأراضي التي خلّفها انهيار السلطنة العثمانيّة، حيث لم تكن هناك مطلقاً وحدة سياسيّة بين هذه البلدان).  

والنزعة السوريّة المضمرة تلك هي ما لعب، في وقت لاحق، دوراً ملحوظاً في دفع البعث الى موقف مناهض للناصريّة المصريّة، والتواطؤ ضدّ عهد الوحدة(1958-61) التي كان البعث أشدّ المتحمّسين الى إقامتها والمندفعين نحوها. لكنّ تلك النزعة التي وجدت شعارها الايديولوجيّ في دعوة "الوحدة"، ما لبثت أن اصطدمت بالبعثيّين العراقيّين أنفسهم، بعدما نما الحزب نسبيّاً في بلاد الرافدين ثم استولى على السلطة، للمرّة الأولى، عام 1963.

على أيّة حال، فالعام المذكور سجّل وصول الحزب العفلقيّ الى سدّة الحكم في البلدين الأكبر في منطقة المشرق، العراق وسوريّة. وهو لئن انقطع حكمه في بغداد ما بين أواخر 1963

و1968، ففي دمشق تواصل الحكم البعثيّ ولا يزال قائماً حتّى الآن.

لكنْ ما الذي أنجزه البعث خلال تلك الحقبة المديدة قياساً بالشعارات التي رفعها؟

لا شكّ أنّ السجل يفيض كثيراً عما تستطيعه هذه العجالة، بيد أنّ العناوين الأهمّ والأكبر تبقى صارخة في دلالاتها:

ففي ما خصّ الوحدة، لم تعرف العلاقات العربيّة درجة من التفسّخ والتفسيخ كالتي أنزلها بها البعث. يكفي القول ان "القطرين" اللذين حكمهما بعثيّون وصلا غير مرّة الى حافّة الحرب في ما بينهما. ولئن وقفت سوريّة الى جانب إيران غير العربيّة في حربها مع العراق العربيّ والبعثيّ، فقد وقف العراق بالمرصاد للسياسة السوريّة في لبنان وفلسطين متحالفاً مع قوى كان دائماً ما يصفها بـ "العداء للعروبة". أكثر من هذا، أدّى غزو العراق الكويت الى تصديع العالم العربيّ وتجزئة مواقفه على نحو غير مسبوق. وقد تسبّب الغزو ذاك بانتشار الكراهيّات العنصريّة التي تبادلها الخليجيّون والفلسطينيّون والأردنيّون والعراقيّون والمصريّون، فيما تسبّبت "الرعاية" البعثيّة السوريّة للبنان بتسميم العلاقات بين البلدين في صورة غير معهودة من قبل.

فوق ذلك، لم يعد سرّاً أن حكم البعث للبلدين إيّاهما اصطبغ بتفتيت الوحدات الوطنيّة فيهما، أو ما هو قائم منها، تبعاً للطبيعة الطائفيّة الحادّة التي اتّسمت بها سلطتا البعث. هكذا طفا على السطح ما كان خفيّاً ومضمراً من حزازات الجماعات الأهليّة، السنيّة والشيعيّة والكرديّة في العراق، والسنيّة والعلويّة في سوريّة.

وفي ما خصّ الحريّة، ندر أن عرف العالم في تاريخه، منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية، ديكتاتوراً كصدّام حسين. لقد حُكم العراق في ظلّه بأخلاق المخابرات وأقبية التعذيب والتصفيات، فلم ينافسه في التعسّف إلا الحكم البعثيّ في سوريّة التي حكمها حافظ الأسد أربع سنوات وزيراً للدفاع ثم ثلاثين سنة من غير انقطاع رئيساً للجمهوريّة. لكنْ حين رحل الأسد الأب في 2000، عُدّل الدستور لكي يجيز تسلّم ابن الـ34 رئاسة الجمهوريّة، إذ الصدفة قضت أن يكون عمر نجله بشّار 34 عاماً في 2000!

وفي هذه الغضون عرف البعث في البلدين عدداً من المجازر الموصوفة التي تعرّضت لها مناطق ومدن وقطاعات سكانيّة بأكملها. بيد أن الشفرة طاولت أيضاً البعثيّين ممن خالفوا توجّهات القائد الأوحد. هكذا رُصّع تاريخ الروح الرفاقيّة في العراق بأسماء عبدالخالق السامرّائي وعبدالكريم الشيخلي وشفيق الكمالي وعزيز السيّد جاسم وعدنان حسين وغيرهم، فيما رُصّع تاريخ الرفاقية في سوريّة بأسماء مؤسّسي الحزب ميشيل عفلق، الذي حُكم بالإعدام في دمشق، وصلاح الدين البيطار الذي اغتيل في باريس، فضلاً عن سليم حاطوم وعبدالكريم الجندي وصلاح جديد ونور الدين الأتاسي وغيرهم. 

وفي ما خصّ الاشتراكيّة، استطاع بعث العراق بفضل الطاقة النفطيّة وريوعها أن يحجب بعض العيوب الكامنة في "الاقتصاد البعثيّ"، إلاّ ان ذلك ما لبث ان انقشع جليّاً، مع تراجع الريوع والعائدات كما بسبب الحصار الأميركي اللاإنسانيّ، على شكل فقر مدقع وتخلّف مريع. وبدورها، فإن سوريّة البعثيّة، وكما تشير سائر الأرقام والمعطيات، لم تزدها سنوات البعث إلاّ إضافة التخلّف الى التخلّف والفقر الى الفقر. هكذا هاجرت الكفاءات والرساميل تباعاً فيما مرّت، وتمرّ، العولمة على دمشق كما لو أنّها تحصل على كوكب آخر. 

هل نحن بحاجة لأن نتحدّث عن دور البعث في الانتصارات العسكريّة، أو في "تحرير فلسطين"، أو عن دوره في قطع الطريق أمام الصعود الأصوليّ في البلدين اللذين حكمهما، أو عن دوره في أيٍ من الوعود التي قطعها على نفسه وعلى "الأمّة العربيّة"؟

أليست المراجعة النقديّة الصارمة لهذه التجربة شرطاً من شروط احترام النفس، قبل أن تكون واحداً من شروط التقدّم والصيرورة السياسيّين؟

كاتب لبناني مقيم في لندن