ضمير للفضاء الأزرق

تعقيباً على مقالة الدكتورة وفاء الخضراء الأسبوع الماضي في الغد، وتوسيعاً للنقاش الرصين الذي فيها، سأركّزُ على نقطةٍ مهمةٍ وردت هناك حول ضرورة تدريب الناس على استعمالٍ مسؤولٍ لوسائط التواصل الاجتماعيّ. وهي فكرةٌ أريبةٌ نحتاجُ إلى توسيعِ الاهتمام بها كمؤسساتٍ وأفرادٍ؛ إذ إنَّ كَمَّ الانفعالات والشتائمِ والأكاذيب والتلفيقات لا يمكنُ السكوتُ عنه، كمهتماتٍ ومهتمّين بالشأنِ العام. وهذا شأنٌ عامٌ ينبئ لا عن سوء استخدامٍ لوسائطَ يُفتَرَضُ أنها لتيسير تواصلِ البشريّة فحسب، بل عن انحطاطٍ أخلاقيٍّ يصحبُه ضجيجٌ سافرٌ وتباهٍ صَلف! اضافة اعلان
ومع أنَّها وفَّرت متنفَّساً غيرَ مسبوقٍ للرأي الفرديّ، مهما نأت به الأماكن وانقطعت به السبل، ويسَّرت توزيعَ المعلومة والمعرفة، وجعلت ممكناً أن يلتقيَ أصحابُ الهوى الواحد، إلا أنها في الوقتِ نفسه أتاحت افتراءاتٍ شاسعةٍ على الحقيقة وحقوق الإنسان باختراع الأكاذيب ونقل المغلوطات بحيثُ غدت قنواتٍ طافحةً بالنفايات جنباً إلى جنبٍ مع العلم ونتائجه الباهرةِ في العالم. وإنَّ جولةً سريعةً على الفيسبوك أو التويتر أو اليوتيوب أو الماسينجر والواتسأب، سترينا مقدار العظمة والجمال الذي بلغه العقل الإنساني والفنُّ الرفيع، كما ستُرينا مقدارَ الانحطاط العربيّ الذي يرى في هذه الحريّة المتاحة فرصةً للتعويضِ عن الكبت الجنسيّ العريق، أو لتوجيه السهام والبنادق وسائر الأسلحة المحظورة، كيفما اتّفقَ، للتعويضِ عن الكبت السياسي. فلقد طالما اشتغل هذان الكبتان على تدمير البنيةِ التحتيّة وأساساتها المسؤولة عن صحة العمران الروحي والعقلي للأفراد وللجماعات.
وعليه، وبعد اختلال التوازن هذا، الذي حدثَ لنا، بسبب انفتاح فضاء الحريّة فجأةً أمامنا، نحتاجُ فعلاً إلى وقفةٍ مجتمعيّةٍ وثقافيّة أمينةٍ وصارمةٍ، نراجعُ فيها ما تدفّقَ علينا من خيراتٍ، وما غمرنا من شرور، تفضي بنا (الوقفة) إلى سياسات تدريبٍ، تبدأ من الأطفال، ولا تنتهي عند أيِّ فئةٍ عمريّةٍ أو شريحةٍ اجتماعيّة، بما فيها قطاعُ المحاماة والقانون. فالوقائعُ تصفُ واقعاً رثّاً، من أسبابه غيابُ الضمير الفردي عن المحاسبة، والجهلُ بمعنى الحرية وحريّة التعبير والحريات العامة والحق الديمقراطيّ. وذلك ما يحتاجُ إلى جهودٍ أهليّةٍ ورسميّة (وليس لتشديد القبضة)، للعمل على تنمية ضمير ورقيبٍ لغويٍّ داخليٍّ على صيغِ التعبير، وكبحِ فجور الخصومة والشتيمة واغتيال الشخصيّة، ناهيك عن حرية التكفير والتحريض على القتل، أو التخوين الذي ينتهي بمحو الآخر المختلف أو عزله. فالقانونُ وحده ليسَ رادعاً ما لم تسبقه وتصحبْه تربيةٌ وتدريبٌ وتوعيةٌ ورشد.
إنها خبرةٌ جديدةٌ علينا أن نحصّنَ صغارنا من خوضها دون استعدادٍ، وأن نُعيد تأهيلَ أنفسنا، مهما علا بنا المقامُ والعلمُ والموقعُ، فربما أن معظمنا، قد وقع، بدرجةٍ أو بأخرى، في وهم الصواب، مع أنه كان على الضفة الأخرى منه! وإنّه لضميرٌ أزرق علينا تنميته كفرعٍ من فروعِ الأخلاق التي ينطوي عليها مبحثُ الفلسفةِ الغائبة عن حقل التعليم!
وعلى ذلك لن نفقد الأمل!