لا تحولوها معاول هدم

لم يعد مقبولا أن نبقى ننظر لما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، من تعميق لخطاب الكراهية، وللفكر الاقصائي، متفرجين في الصفوف الخلفية، وأحيانا ناقدين له من دون أن نفكر، أقلها بتحقيق بصمة تؤسس لسيادة فكر حداثي، يقبل الأخر ويتعامل مع الاختلاف في الرؤى والأفكار، باعتبارها وجهات نظر لأصحابها، لا يجوز أن يتم مهاجمتهم وشتمهم.اضافة اعلان
بداية، أنا ضد فرض أي وصاية من أي نوع على الناس، ولست مع مراقبة حركاتهم وأفعالهم وتصرفاتهم، وأراني منحازا وبشدة لحرية الرأي فكرا ومعتقدا، حرية القول والكتابة، حرية النقد العلمي البناء، وحق الناس في التفكير من دون وصاية، والتعبير من دون حواجز، ولكنني في الوقت عينه أقف بقوة ضد شتم الناس والتعرض لشخوصهم ولعائلاتهم، وضد التطاول على الأديان، والمعتقدات، وتخوين هذا ومنح أوسمة لذاك.
مواقع التواصل الاجتماعي اليوم بات بعضها، وبنسبة مرتفعة، عبارة عن صفحات للشتم والازدراء، تعج بكراهية شديدة ضد بعضنا، وتنقل أخبارا سوادها غير دقيق، وتبث فيديوهات أغلبها ليس في مكانه الحقيقي، فضلا عن نقلها معلومات غاية في السخف أحيانا، وبعضها الآخر يعج بالكذب، وأخبارا قصيرة نسبة قليلة منها حقيقي، وأغلبها أخبار منقولة ومتداولة بين الناس من دون معرفة مصدرها أو صاحبها، بعضها يكون ليس ذي قيمة وبعضها الآخر مليء بالإشاعات الافتراضية التي تسري بين الناس كالنار في الهشيم، فتصبح الإشاعة بنظر بعض الناس واقعا فتبتعد الحقيقة.
استوقفتني جملة وزير الدولة لشؤون الإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة الدكتور محمد المومني إبان لقائه مجموعة من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بدار رئاسة الوزراء الأسبوع الماضي، والتي تعرّض فيها الى أهمية استخدام منصات التواصل لمنفعة المجتمع وعدم تحويلها لـ"معول هدم".
وإذ أتفق مع رؤية الوزير المومني فيما يتعلق بمنصات التواصل الاجتماعي وأهمية التعامل معها بمسؤولية عميقة وعدم اتخاذها منصات لبث الفتنة، سواء أكانت فتنة اقليمية أو طائفية أو دينية أو جهوية، إلا أنني في الوقت عينه لا أتفق معه لتبرير صفقة الغاز مع الكيان الصهيوني، والموقعة من قبل شركة الكهرباء والمرفوضة شعبيا ووطنيا، وأرى أن من حق المعارضين للصفقة قول كلمتهم، وإيصال رسالتهم، فالموضوع ليس ذا صلة، والحديث عما تعج به مواقع التواصل الاجتماعي من بؤر فتنة وبث أحقاد ليس له علاقة بحق الناس في التعبير عن رفضهم لصفقة الغاز، أو حقهم في التعبير والتعليق على موقف حكومي أو قرار عام.
الاصل أن تكون مواقع التواصل الاجتماعي محطات تنوير فكري وحضاري وحداثي وإنساني، يتبادل على صفحاتها المتحاورون الرأي والفكر، والموقف، ويتجادلون ويتحاورون أيضا، وتقدم فيها رؤى بديلة وأفكار يمكن الأخذ بها، ويمكن من خلالها إيصال رسائل مهمة والتعبير عن الموقف، بيد أنه من المفترض بها أن لا تكون أبدا منصات لإطلاق الشتائم وتعظيم الفكر الإقصائي، وإذكاء روح الفتنة الطائفية والتكفيرية، التي بتنا نراها يوميا عبر الكثير من تلك الصفحات، وباتت تؤثر على الجيل الناشئ وعلى العقول.
علاج الحال لا يتم من خلال تشخيص الحال وكفى، وإنما يتطلب الأمر أكثر من ذلك، فنحن لا نريد أن نتحول من خلال تلك المواقع إلى الأفكار المتشددة، ولا نريد أن نكون أبواقا لزارعي الفتن، ننشر ما يبثون، ونعيد كلامهم وأفكارهم، ولذا فإن الدولة إنْ أرادت التحرك، عليها ليس فقط استدعاء هذا أو ذلك، وإنما عليها الذهاب أكثر وأشمل وأوسع لتعزيز فكر الدولة الحديثة والإصلاح، وبناء جيل يؤمن بالمواطنة، لا العشائرية، أساسا لبناء الدولة، وبالحرية والعدالة والمساواة، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال إيمان صنّاع القرار به أولا، وتعزيزه في المدارس والجامعات والمنتديات والمساجد.