ثنائية الفوضى والأتمتة المفترضة!

لم يحترم أحد ما قدمه لبلاده! دخل الرجل السبعيني -والمتقاعد بعد عقود من الخدمة العامة- إلى إحدى الدوائر التي تتبع وزارة المالية، ومراده أن ينهي المعاملة التي يحملها منذ الصباح. لكنه اصطدم بأخطاء لم تبدأ ببوابة الدائرة، ولم تنته بالبحث عن موظف السجلات الذي غاب في العاشرة صباحا وقيل إنه يصلي!اضافة اعلان
ولا مجال للحديث عن السجائر التي تتكاثر في أيدي الموظفين، وتنثر جوا مسموما في أروقة المبنى المتهالك ذي الغرف والممرات الضيقة. اختنق الرجل وهو يبحث عن الموظف في هذا الجو الملبد بالأمراض، ثم هرب من الضوضاء من دون أن يحصل على مبتغاه، واكتشف أثناء عودته أن محفظته سرقت منه في هاتيك الدائرة.
موظفة، أو هكذا يجب أن تكون، لم ترفع عينها لترد على أي من استفسارات المراجعين، وأسهمت الطرف في هاتفها المحمول.
شارك كاتب هذه السطور في محاولة، الأسبوع الماضي، لاتمام معاملة حصر إرث، فرأى ومن معه من أشقائه العجب بألوانه الباهتة. أوراق ووثائق كثيرة، بدائية في الإجراءات، ازدحام ورسوم متكررة وتنقل بين هذا المبنى وذاك، أيام تعقبها أيام حتى تنجز المعاملة. ثم يقول لك موظف إن الورقة التي حصلت عليها سارية ليومين فقط، وعليك تجديدها إن أردت الاستمرار في المعاملة لاحقا. والبيروقراطية ذاتها، بأشكالها الصادمة، تملأ معظم مؤسساتنا الحكومية، وتتشابه مع بعض موسسات القطاع الخاص للأسف.
محزن ما يجري في العام 2016 بحق المواطنين. ومؤسف أن تتحول نسبة لا يستهان بها من موظفي القطاع العام إلى هذا النمط المؤذي من الهدر في الموارد والحقوق وشرف الخدمة العامة.
وفي موازاة هذا المشهد السريالي للخسارة العميقة في مفهوم التنمية والتطوير الإداريين على المستوى الحكومي، يتكرر عقد المؤتمرات والندوات عن الحكومة الإلكترونية وإنجازاتها، وربط مؤسسات الدولة معا، وتسهيل الإجراءات والخدمات لـ"السادة المواطنين". ويستمر التنظير والكلام غير المجدي دفاعا عن الفشل. وأذكر أن فكرة "الحكومة الإلكترونية" خرجت للعلن في العام 2001، لكننا اليوم لم نطبق منها إلا أقل القليل. ومن لا يقنعه هذا الزعم، عليه أن يقصد أقرب مؤسسة حكومية للوقوف على شكل الإجراءات ورتابة الحالة التي وصلنا إليها، في الوقت الذي حقق فيه عرب آخرون مشاريع متميزة للحكومة الإلكترونية، والحديث اليوم أكثر جدية عن الحكومة الذكية أيضا.
وإمعانا في السريالية، تتسول طفلة في سن العاشرة داخل مؤسسة حكومية وازنة خلال ساعات الدراسة الصباحية، وتجول في كل مكاتب المؤسسة المترهلة، من دون أن يلتفت إليها أحد!