رسالة إلى طفل غزي!

د. محمود أبو فروة الرجبي
د. محمود أبو فروة الرجبي

لله درك أيها الطفل الغزي! ما عانيته وصبرت عليه لا يتحمله أقسى الرجال، وما مررت به قد تنوء منه الجبال، وتشتكي، لقد جعلتك الحرب تختصر مراحل الطفولة كلها، لتصل إلى درجة لا يصلها الإنسان إلا بعد أن يصاب بخيبات أمل لا حصر لها، وبعد أن تعركه الحياة، ويعركها، ومع ذلك فما زلت صامدا مثل أهلك، وكما الشعب العربي الفلسطيني الذي راهن العالم كله على أن يستسلم فتبين، أنه غير قابل للهزيمة، ولن يكون - بإذن الله-. اضافة اعلان
سيأتي زمان، لكن بعد فوات الأمان، ويصاب العالم كله بعقدتك أيها الطفل الغزي، عندما يعرف أنه تركك فريسة كيان إرهابي، لا يعرف سوى لغة القهر، والقوة، والقتل، والتشريد؛ كيان محصن من قبل قوى عالمية تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي أبعد ما تكون عنها. 
سيصاب العالم كله بعقدتك، وسيتباكون عليك مستقبلا، ويقيمون حفلات العويل، والبكاء، ومهرجانات التأبين، وذلك كله في الوقت غير الـمناسب، حينها لن يصدق عاقل دموعهم، فقد بتنا ندرك جيدا أننا نعيش في عالم ملون بالنفاق، والكذب، والدناءة، والخسة بكل معانيها.  
لك الله أيها الطفل الغزي، فرغم كل ما عانيته، لكن فيما يجري الآن تظهر فرجة أمل، وطاقة حياة، فهم لا يعلمون أنهم بإرهابهم يخدمون القضية الفلسطينية، ويحيونها، ويجعلون كل من لديه أدنى ذرة تفكير أو إنسانية، أو أخلاق يعلم أن العدو الحقيقي للإنسانية هو كيان الاحتلال، وأن الإنسانية لا بد أن تحترق بنار الظلم التي وقعت عليك وعلى أهلك، لتصل إلى نظام عالمي أكثر إنسانية، يؤمن بحقوق الإنسان بغض النظر عن لونه، وجنسه، ودينه، وعرقه، والحائط الذي يتكئ إليه. 
لا تغضب علينا أيها الطفل الغزي، نعرف أن هناك من يغرد خارج السرب من أبناء جلدتنا، ومن يهاجمك، ومن لا يتعاطف معك، وهذا اعتيادي ففي كل زمان تشتد فيه الأزمة، والكربة، يظهر من لا يمتلك الحد الأدنى من الكرامة، والإنسانية، فما يحصل هو الـمحك الذي يظهر من خلاله الشريف من الدنيء، والكريم من الخسيس، وتاريخنا مليء بمن خذل المظلومين، ومن عادى الشرفاء، ووقف مع الجلاد ضد الضحية، وفي النهاية كان النصر لهذه الأمة التي لا تموت، ولو راهن العالم كله على موتها، فالعرب أيها الطفل الغزي وإن ظهر أنهم أموات، ولكنهم مثل طائر الفينيق الذي ينبض بالحياة، في الوقت الذي يعتقد الجميع أنه مات، فنحن أمة واحدة، ودمنا واحد، وأحلامنا واحدة، وحتى لو ظهرت أصوات نشاز تقول غير ذلك، ففي في النهاية نحن أمة تمرض ولا تموت، تتراجع، ولا تتقهقر، وسيأتي يوم يؤمن فيه كل العرب بأن ذرة دم طفل عربي أفضل من العالم وما فيه، وأن دمعة امرأة عربية مظلومة تساوي الدنيا وما فيها.  
لك الله أيها الطفل الغزي، لن نعتذر لك، لأننا لم نقدم ما هو مطلوب منا، لأننا ببساطة لا نمتلك الجرأة لفعل ذلك أمام صمودك، وكبريائك وعزتك التي ستدرس في جامعات العالم مستقبلا لتتعلم منها البشرية.
لك االله أيها الطفل الغزي، فهناك أطفال آخرون يعانون مثلما تعاني، فوطننا العربي الكبير، وعالمنا الإسلامي، ودنيانا مليئة بالظلم، والتهاون والقهر، فهل نبكي عليك؟ أم على فلذات أكبادنا في السودان الذي نعشقه في أعماق قلوبنا، هل ننظر إلى أطفال الروهينغا ومآسيهم، أو الصومال ومتاعبهم، أو أي طفل يتيم في أي جزء من العالم يعاني؟
نعدك أيها الطفل الغزي ألا نكره العالم بعد أن رأينا ما يحصل معك، فنحن أمة الحياة، والحب، والكبرياء، لن نلوم العالم على ما فعله معك، ولن نقيم اللطيمات حول ما جرى لك، ولكننا وبمقدار ما خذلك العالم سنجعله يمتلئ حبا، ووسطية، وحياة. 
بقدر الخذلان المعشش في قلوبنا، سنحاول أن نكون على أفضل حال، فنحن نثق بالله، وندرك من خلال دراستنا لصفحات التاريخ أن النصر قادم، والتحرير قاب قوسين أو أدنى، وأن الاحتلال لا يمكن أن يدوم، حتى لو حاول العالم كله أن يحميه. 
لك الله يا من حرقت قلوبنا، ننتظر اليوم الذي يشفى ألم صدورنا عندما نرى الطفولة تعود إليك. 
نحبك أيها الطفل الغزي – نحن العرب وكل إنسانيي العالم-، بقدر ما أنتج العالم خلال ملايين السنين من محبة، وعشق، وكبرياء.