بطل رغم أنفه



كثيراً ما يصنع بعض الرجال الأفذاذ أقدارهم بأنفسهم، يتولون المسؤوليات القيادية ويكتبون مصائرهم بأيديهم، وينتزعون البطولات بإرادتهم التي لا تعرف الكلال، ولا يساورها اليأس أو الخوف، أولئك الذين يتمتعون بما يعرف بخاصيات الكارزمية، وبقوة الشخصية، ويتحلون برباطة الجأش وقوة الشكيمة. وكثيراً أيضاً ما تصنع الأقدار والأحداث الجسام أبطالاً رغماً عنهم، وتعيد المصادفات التاريخية إنتاج مسؤولين غير جديرين بالموقع، وغير مؤهلين للقيادة، لتضعهم في مركز الزعامة، وتجعل منهم رموزاً وطنية بالضد من رغبتهم.اضافة اعلان
تاريخنا البعيد والقريب حافل بمثل هذه النماذج الإنسانية، سواء تلك التي صنعت نفسها بنفسها، أو التي صنعتها المصائر العمياء، وجادت بها الحظوظ في غفلة من الزمان. وفيما يتحفنا الرواة بقصص لا حصر لها عن الرجال العصاميين القادمين من المجهول، ممن تصدوا للقيادة وتنسموا مقاليد الزعامة، وسط مظاهر تأييد وإجماع لا مثيل لها، تخبرنا الوقائع القديمة والجديدة كذلك، أن هناك من صار بطلاً بحكم الصدفة الموضوعية، أو زعيماً لا يشق له غبار، إمّا بمحض ظروف الوراثة التقليدية، أو بفضل اتخاذ موقف لم يكن صاحبه يملك خياراً بديلاً منه.
ولعل رئيس الحكومة اللبنانية المستقيل سعد الحريري واحد من النماذج البشرية، التي صنعتها الأقدار المأساوية، وتواطأت على تخليقها من العدم كل من المصادفات التاريخية، وتقاليد توريث السلطة والثروة والحزب من الأب إلى الابن، والحاجة الماسة لوجود زعامة تعوّل عليها الطائفة السنية المكسورة، الأمر الذي قدّم لنا مثالاً حياً على ما ذهبنا إليه حول قدرة مسار الأحداث – خاصة إذا كانت دموية ومأساوية- على تصنيع قادة، وتطويب زعماء، وتتويج أبطال رغماً عنهم، تماماً على نحو ما تقصّه على مسامعنا حكاية الحريري الابن التراجيدية.
فقد حمل سعد، الذي لم يكن معروفاً في عالم السياسة والإعلام، دم أبيه قبل أن يحمل الإرث السياسي للرجل الذي قضى في ظروف لا تزال غامضة، حتى بعد اثنتي عشرة سنة طافحات بشتى المتغيرات اللبنانية والإقليمية، حيث تمت إعادة إنتاج الابن على عجل ليملأ الفراغ الكبير، والمنصب الرفيع، ويتابع التحقيق في المجزرة التي أودت بحياة رجل الدولة الكبير رفيق الحريري، دون أن تكون لديه الخبرة اللازمة، أو المؤهلات الكافية، أو غير ذلك من الخصائص الشخصية، سوى اسم العائلة، والثروة الطائلة، فضلاً عن فريق من المستشارين المخلصين.
لم يكن أداء سعد الحريري خلال السنوات الطويلة الماضية باعثاً على الإعجاب، حتى لا نقول إنه كان مثيراً لإحباط كل من حوله، لا سيما بعد أن عقد قبل نحو عام  صفقة مليئة بالغبن له وللتيار الذي يقوده، وللطائفة المغلوبة على  أمرها، حيث مال إلى تغليب حسن النية في بيئة سياسية تغصّ بالذئاب والضباع والثعالب الماكرة، الأمر الذي هز قاعدته، التي راح بعض الأركان فيها يشقون عصا الطاعة، وينازعون على القيادة وعلى أحقية التمثيل، مما زاد في إضعاف موقف الحريري، وقلب الميزان المائل أصلاً لصالح خصوم أشداء.
ومع ذلك كله، أدت الإكراهات السياسية الأخيرة، وما أحدثته من زلزال ذي ارتدادات إقليمية ودولية واسعة، ناهيك عما لحق بها من تطورات تقطع الأنفاس، إلى إعادة إنتاج سعد الحريري كزعيم موضع إجماع غير مسبوق، تنعقد عليه الرهانات، داخل لبنان وخارجه، ويتبارى الجميع في إظهار المودة له، وإبداء الحرص عليه، من أجل تصحيح الخلل في التوازن الداخلي، وضبط عقارب الساعة اللبنانية من جديد، بعد أن وقع البلد الصغير في قبضة الذراع الإيرانية، وتحوّلت الذراع، جهاراً نهاراً، إلى قوة ضاربة في معظم بلدان المشرق العربي.
وليس أدل على القول إن الظروف الموضوعية، وأضواء الإعلام المبهرة، والمصادفات التاريخية، هي التي تجعل من امرئ لا يتمتع بأهلية كافية، وأحياناً ليس لديه مميزات كارزمية، بطلاً رغم أنفه، وزعيماً لا بديل منه، على نحو ما تجلت عليه صورة الحريري الابن طوال أكثر من أسبوعين، احتل فيها مقدمات نشرات الأخبار التلفزيونية، وصدارة الصحف اليومية، وصار موضع اهتمامات اللبنانيين والعرب والعالم بأسره، تشخص إليه الأبصار، ويتسقط المراسلون كل نأمة تخرج منه، ويتابع المحللون النفسيون كل التفاتة تصدر عنه، حتى أصبح رئيس الحكومة المستقيل عمود الوسط في الخيمة اللبنانية.